الخميس 2019/04/25

آخر تحديث: 08:28 (بيروت)

"دزاير ماشي سوريا".. ونحن نقول: آمين!

الخميس 2019/04/25
"دزاير ماشي سوريا".. ونحن نقول: آمين!
Getty ©
increase حجم الخط decrease

أثارت إعجاب العالم، وعجبه، سرعة استجابة النظام الجزائري لمطالب المتظاهرين، وفرضه الاستقالة باستجابة لافتة على بلعيز وتعيين رئيس جديد للمجلس الدستوري، ربما قبل انتهاء المذيع من خبر استقالة الأول. ومن أهم ما أثار الاهتمام كون المعيّن حديثاً- كمال فنّيش- شخصية مجهولة إلى حدٍّ كبير. وكان العديد من عقلاء الحراك الشعبي قد اقترحوا تعيين شخص آخر مكان بلعيز حتى يستقيل رئيس الجمهورية المؤقت ويكون رئيس المجلس الدستوري رئيساً مقبولاً وخالياً من العيب والعوار والشبهات التي تلحق بشخصيات النظام للمرحلة الانتقالية، وتخلو الساحة عندئذٍ مما أسموه "الباءات الثلاث": بن صالح وبدوي وبلعيز، وتكون عملية التغيير "دستورية" كما يتطلع أغلب أهل النظام، ومعهم أغلب الدول التي تريد تجنب الصداع لاحقاً.

لا بدّ أن المسارات والخيارات في الجزائر أشد حساسيةً وصعوبة من أي بلدٍ آخر في المنطقة. وينعكس ذلك مثلاً على سياق خطة إجراء انتخابات رئاسية في تموز المقبل. حيث يتزايد حرج القوى السياسية تدريجياً أما زخم الحراك وحرارته، فتلجأ إلى إعلان مقاطعة تلك الانتخابات، بانتظار استكمال عدة العملية الانتقالية الأكثر عمقاً، بحيث ترضي الجمهور المتوثب، الذي خرج من صندوقه ولن يعود خائب الرجاء كما يبدو.

في مقابل صمود الناس في الشوارع، وما يعنيه من قوة فعل هائلة لا يستطيع نظام مقاومتها في هذا العصر المفتوح، هنالك نظام "عريق" جعبته عميقة تحوي ألعاباً معروفة وأخرى مجهولة، بعد!

من تلك الأساليب المعروفة، دغدغة الناس بتاريخ التحرير والاستقلال، وعظمة "جبهة التحرير الوطنية" وممثليها السياسيين الحاليين، الذين لا يوجد غالباً في صفوفهم أحد من المجاهدين الأصلاء. وقد انهار حاجز كبير من هذه الدفاعات، بانسحاب بوتفليقة نفسه من الميدان، وهو من أواخر الذين يمكن استثمار تاريخهم الوطني الذي مرّت عليه أحقاب وأزمان.

ومنها ما يتعلّق بالعروبة والممانعة والقضية الفلسطينية أيضاً، وهي القضية التي طالما كان لها موقع متميز في ضمير الشعب الجزائري. منذ فترة قريبة جداً، تخوّفت شخصية معارضة يسارية بارزة انضمت إلى خيارات الناس من أن "تُفرض على الجزائر تنازلات قاتلة، بدءاً بموقفها المبدئي من القضية الفلسطينية، وحتى التطبيع مع الكيان الصهيوني". ذلك مع تكرار القول بأن الحراك الحالي هو استمرار لمعركة "الاستقلال الوطني"، وتلك بلاغة معروفة في الشرق العربي، قد تنفع في تخفيف الجانب الثوري — الوطني- الديموقراطي من الحراك.

ولكن الاستراتيجية الأكثر فاعلية، والتي أثبتت ذلك دائماً رغم استهلاكها وتحولها إلى خرقة بالية، هي الحديث عن الأمن والاستقرار، وإثارة المخاوف من الفوضى والإرهاب وعودة الإسلاميين المتطرفين إلى العمل. ورغم كل السخرية التي تستبطنها تلك الفزاعة المتكررة، إلا أنها صاحبة القول الفصل، الذي يدفع بقيادات الحراك الشعبي إلى التأني والصبر أمام ما تمثّله الدولة والدستور والجيش.

وقد مرّت فترة الآن، على رئيس الوزراء السابق  أويحيى حين قال إن "تظاهرات السوريين أيضاً قد بدأت بالورود"، مشيراً إلى سنوات السوريين السوداء لاحقاً، ومثيراً عصبية الآلاف في الشوارع الذين هتفوا بشتيمة لأويحيى، أتبعوها بالقول "دزاير ماشي سوريا". وأحزن ذلك العديد من السوريين الذين أنعشتهم في غمرة اكتئابهم انتفاضةُ الجزائر، قبل أن يتلمّسوا عملياً ما كان قد حدث، ويعودوا لحماسهم في متابعة ما يجري لعله يحمل شيئاً مختلفاً عن مصادر أحزانهم.

ابتدأت "عبادة" الأمن والاستقرار والتبشير بهما مع معاهدة وستفاليا غالباً، مع استمرار التسليم بفجور الأقوى دائماً بالطبع. وذلك الاستقرار الذي كان سائداً قبل الحرب الكونية الأولى، تمّ تلغيمه ببساطة في معاهدة فرساي بعدها. ولكن العهد الذهبي لتك العبادة جاء في العصر الحديث، مع نهاية الحرب الكونية الثانية وحلول الحرب الباردة مكانها بالتوافق. آنذاك، عمت منطقتنا كرامات الأمن والاستقرار مع تكريس الهيمنة الأميركية بالكامل بدورها الرئيس في الحرب. عمّت، مع التركيز طبعاً على دعائم ذلك الأمن المثلثة: إسرائيل والنفط، وتأبيد الاستبداد السلطاني، جمهورياتٍ وممالك، بما يليق برؤية استشراقية وعنصرية أصيلة.

ولم تستقر وتأمن تلك الاستراتيجيا إلا مع مجيء البعث في دمشق وبغداد٫ وخصوصاً مع صدام والأسد. حيث استقرّ القوم وأمنوا.. واستقرّينا ولم نأمن.. من الخوف الدائم على الخصوص.

لكننا، على عادة المحكومين بالعبودية، نركن إليها ونتقمّص روح استمرار الحكم لدى حكامنا، وتصيبنا فوبيا الأمن والاستقرار بدورنا، حتى يستطيع أولئك الحكام أن يستخدموها فزاعة دائمة. وهي تنفع على الجهتين، إخراس أي صوت مقاوم في الداخل، وتخميد أية اقتراحات وبحوث في الخارج، قد تقترح مخرجاً لينابيع الأزمات في المنطقة هذه، من خلال التغيير والتحديث الحقيقي.

وكان حافظ الأسد عبقريّ تلك الاستراتيجيا، إلا أنه ليس وحيد زمانه في ذلك. فالكل من مدرسة واحدة، ولو اختلفت اللغات، بل اللهجات المستخدمة في التعليم.

يستخدم النظام الجزائري لهذا الهدف ذاكرة الجزائريين في "العشرية السوداء". يومَ اختار النظام إلغاء نتائج الانتخابات التي جاءت بالإسلاميين في يناير/ كانون الثاني 1992، ودخلت البلاد في عشر سنواتٍ من العنف والعنف المضاد، من الدماء والركود والخوف، وفقد الجزائريون حوالي مئتي ألف من أبنائهم.

يستخدم النظام أيضاً المثال السوري، ويتجاوز الليبي، ربما لغياب "الورود" هناك. وربما أيضاً للفائض من شراسة وبشاعة المثال السوري، الذي شهد تشريد نصف السكان، و"تحييد" عُشرهم، وتدمير البلاد بالمعنى المباشر. ربما أيضاً للتذكير، بما يمكن أن يصل إليه النظام من آفاق غير محدودة من العنف.. للتخويف والإرهاب باختصار.

والدرس السوري الآخر في السياق الجزائري، هو استثمار "الخارج" بشكل مفيد. وقد ابتدأ النظام بالتحرك في هذا الحقل من خلال زيارات لوزير خارجيته، واتصالات محمومة موازية، وإن بتردد وارتباك بسبب تسارع الحراك والاضطرار خطوة خطوة إلى ملاقاته في منتصف الطريق. ولعل فشله في ذلك يعود أيضاً إلى علاقته السابقة المريبة بالنظام السوري والدفاع عنه وعن متطلبات استمراره، بشكل سبق كل  الأنظمة التي تضمر مثل هذا الموقف وتحمله في "وجدانها". تلفت هنا سخرية القدر. التي جعلت من بشير السودان أول طائر عربي غير ميمون يحطّ في مطار الشام يحمل البشائر لنظامها بفكّ الحصار عنه.

وكنا قد أشرنا أعلاه، إلى درس عربي شامل، ولو كان السوريون هم الأكثر تفوقاً فيه، وهو درس فلسطين وغزة والمقاومة والممانعة.. ويبدو أن هذا السياق ما زال ناجحاً يتوافق عليه النظام والثائرون عليه.. ولعل طبيعته لا تسمح له بأن يكون عاملاً حاسماً في موازين القوى، إضافة إلى ذلك التوافق عليه.

رغم ذلك، لا بدّ من التأكيد على أن "دزاير ماشي سوريا".. وعلى أن لكل شعب موسيقاه التي يرقص علي أنغامها، حتى يصل ويرسو إلى بر الأمان والسلام المصحوبين بالحرية والديموقراطية والتقدم، حتى لا نلفظ كلمتي الأمن والاستقرار، ونستحضر إبليس اللعين!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها