الخميس 2019/04/18

آخر تحديث: 12:00 (بيروت)

ثائر، والبنزين، وجارته الغامضة

الخميس 2019/04/18
ثائر، والبنزين، وجارته الغامضة
(Getty)
increase حجم الخط decrease
رفض ثائر، طلب والده للذهاب إلى محطة البنزين القريبة من حارتهم الدمشقية. ارتدى ثيابه، صفف شعره، وأضاف رشة عطر خفيفة وغادر البيت، للسهر مع رفاقه في المقهى.

في مدخل البناء، التقى ثائر بجارته الثلاثينية الأنيقة، تحاول صبّ البنزين من عبوة زجاجية إلى خزان سيارتها. اقترب منها عارضاً المساعدة، ضحكت: "بدك تساعدني عن جد؟"، فقال: "أكيد عن جد، شو عم امزح؟"، فقالت: "إذا بدك تساعدني أمنلي بنزين، شو ما كان سعرو". ولأن الطلب مستحيل، فقد اقترحت عليه مرافقتها إلى المحطة، كي لا تنتظر وحيدة وسط مئات السائقين الغاضبين.

ثائر، الذي رفض للتو طلباً مماثلاً من والده، أجاب جارته، بعد تفكير وارتباك، وبكل شهامة: "يالله".

في العادة، لا يرفض ثائر طلبات أبيه. لكنه تذرع هذه المرة بحجج شتى. وقد اكتفى الوالد بالنظر إلى ابنه الوحيد، ليفهم أن ابنه لم يخبره بما حصل معه في المرة الماضية التي عبأ فيها عشرين ليتراً بالبطاقة الذكية. عاد ثائر يومها غاضباً، يشتم الناس والمجتمع المتخلف، لكنه لم يقل أبداً ما حدث معه.

فقد تلقى ثائر صفعة شديدة على وجهه، عندما حاول رشوة أحد السائقين لأخذ دوره المتقدم. ثائر حاول إقناع السائق، بأخذ مبلغ مالي، ليسمح له بأخذ مكانه. ردة فعل سائق سيارة الأجرة كانت "همجية"، إذ ترجل من سيارته على مهل، كما لو أنه يريد التفاوض على المبلغ، ثم وجه له صفعة حادة شعر معها الشاب بالشرر يتطاير من عينيه. ولم تكتمل الإهانة إلا بفضح السائق أمر ثائر أمام السائقين الآخرين. فما كان الشاب إلا أن ينسحب إلى آخر الدور ذليلا، لينتظر 6 ساعات، قبل أن يحصل على 20 ليتر بنزين.

الصفعة نالت من فلسفة ثائر في الحياة. بالعموم هي فلسفة، ولو كانت بسيطة وعملية تتلخص بمقولتين: "المال يفتح كل الأبواب"، و"لا شيء لا يشتريه المال". وحتى عندما اعترضت إحدى زميلاته في الجامعة، مستنكرة فلسفته: "حتى الحب؟"، فأجابها ضاحكاً: "حتى الحب".

لم يكن ثائر بوارد أن يسرد لجارته الأنيقة الغامضة، ما حدث معه المرة الماضية في المحطة. إلا أن لشهامته المفاجئة أسباباً أخرى؛ فالجارة الثلاثينية ليست من سكان المبنى الأصليين، وقد استأجرت شقة منذ مدة. علاقتها محدودة مع الجميع، وبالكاد تقتصر على السلام. لا أحد يعرف عنها شيئاً، ولا تستقبل ضيوفاً في الشقة. لكن ثائر، كان قد رصدها أكثر من مرة تعود متأخرة. فضوله لمعرفة أسرارها، لا يقل عن إعجابه بها. وهل من فرصة للتقرب منها أكثر من مرافقتها إلى محطة البنزين، والانتظار معها في السيارة لساعات. فرصة نادرة، وبالتأكيد أكثر متعة من سهرته مع أصحابه المعتادين، في القهوة.

في الطريق فشل ثائر بإقناع الجارة بالذهاب إلى المحطة القريبة ذاتها التي تلقى الصفعة فيها. في الحقيقة، خشي ثائر أن يُصادف والده هناك. لكنها أصرت ساخرة: "ليش في كازية بهذه الأيام أحسن من غيرها، خلينا بالقريبة". على الأقل نجح بإقناعها بالتزود بالبسكويت والشوكولا والشيبس والكولا، وهو يقول: "سهرتنا طويلة".

وصلت السيارة إلى مؤخرة طابور يمتد لأكثر من كيلومتر، توقفت، حاول ثائر أن يستفهم من السائقين الذين سبقوه عن الوضع، عن وتيرة التقدم، متى بدأت الكازية بالتوزيع، وعن الزمن المتوقع للانتظار. وفي الوقت ذاته، كان يقترب بحذر محاولاً استكشاف مكان والده. لمح سيارتهم هناك، كانت تسبقه بعشرين سيارة تقريباً. اطمأن قليلاً، فليس عليه التقدم إلى هذا الحد.

عاد إلى سيارة جارته، وأوجز فلسفته ممزوجة بخلاصة التجربة الماضية، وهو يفتح كيس شيبس: "لو لاقيت بنزين بأي سعر، ما رضيت انتظر هون. لم انتظر سوى مرة واحدة، كرهت حياتي فيها". أخبرها أنه بعد شهور سيصبح في الحادية والعشرين، وستكون هدية عيد ميلاده سيارة خاصة به، راجيا ألا تمتد أزمة البنزين إلى ذلك الزمن. قالها وهو يراقب الصبية الغامضة، متابعا حركة يدها البطيئة وهي تأكل الشيبس. فكر في نفسه: "لا شك أنها لا تأخذه على محمل الجد كثيراً، ربما بسبب فارق العمر، ولكن الليل في أوله، والسهرة في بدايتها، ولن يطول الأمر قبل أن تكتشف سحره.. ما أجمل أزمات البنزين...".

وعدا عن الأحاديث العادية، الجارة اقتصدت في الكلام عن شخصها، وعملها. وفي المقابل، لم يتوقف ثائر عن الكلام، وكأنه يحاول إثبات شيء ما، وهي تدفعه للمتابعة بإيماءات أو مفردات سريعة. وفجأة رن هاتفها. لم يفهم ثائر الحديث، لكنه سمعها تقول بصوت منخفض: "ما فيني أنا ناطرة ع الكازية"، وتابعت: "عم قولك ما فيني، سيارتي ما فيها بنزين". صمتت لبرهة مصغية باهتمام لحديث الطرف الآخر، قبل أن تقول له: "لحظة، خليك معي"، ثم توجهت بحديثها إلى ثائر، وهي تعض على شفتها السفلى وتنظر إليه بعينين مسبلتين: "ممكن اطلب منك خدمة؟"، "ممكن أتركك لحالك وروح مشوار صغير بحاول ما أتأخر؟ مضطرة عليه".

تابعها ثائر وهي تبتعد وتشير لسيارة تاكسي صفراء، وتغيب تاركة له البطاقة الذكية والمال اللازم من قبيل الاحتياط، ورقم هاتفها.

في الساعات الثلاث التي مرت على غيابها، تابع ثائر الكثير من المشادات بين المنتظرين على الدور، وسماع الكثير من الشكاوى والقصص عن البنزين وأزماته، مُجهِزاً على كامل المأكولات التي اشتراها. اتصل بالجارة مرتين بلا جواب.

المفاجأة الشديدة، كانت عندما ورده اتصال هاتفي من والده، يطلب منه القدوم على وجه السرعة، بسبب مغص شديد أصابه: "تعال احسن ما يروح الدور علينا". مرة أخرى، وخلال ساعات قليلة، رفض ثائر طلباً ثانياً لوالده، متذرعاً بحجج شتى. فليس وارداً أن يخبره أنه في الطابور ذاته، ولا يبعد عنه سوى 200 متر، وأن الجارة الغامضة لا ترد على اتصاله وأنه عالق في سيارتها.

ساعة أخرى من الانتظار كانت كفيلة بحصول والده على البنزين، لكنه لم يتمكن من الانتظار. شاهد ثائر والده وهو يخرج من الطابور، من دون الحصول على البنزين، ويذهب إلى البيت. كان ثائر عاجزاً عن فعل أي شيء، وغاضباً بشدة من جارته الغامضة التي تركته في وضع لا يحسد عليه.

فكر أن يقود سيارتها ويركنها في مدخل البناء، ويمضي إلى البيت دون الحصول على البنزين، أو أن ينتظرها ويرمي لها المفاتيح حالما يراها ويمضي من دون كلام، أو أن يؤنبها بشدة. لكن، اتصالها قطع سلسلة أفكاره: "أنا كتير آسفة دقيقتين بكون عندك تأخرت عليك ؟ ما هيك؟"، رد عليها بجفاء: "ماشي".

بعد دقائق، أطلت عليه معتذرة بشدة، بررت الأمر بطبيعة عملها قائلة إنها مديرة علاقات عامة في شركة ويتطلب عملها الحضور في بعض الاجتماعات الليلية، وأنها بسبب هذا العمل خسرت زوجها الذي لم يتفهم خروجها الليلي. ورغم تلون صوتها بحزن بعيد وانكسار مبطن إلا أن ثائر بقي على موقفه الحاد منها كما بدا في جوابه الاتهامي: "مديرة علاقات عامة بشركة محترمة وما قادرة تأمني بنزين؟". نظرت إليه بحدة وتمعن قائلة: "أنا بدفع ثمن البنزين مصاري وبس، وأنا مستعدة للتعويض على تعبك معي بالمصاري كمان".

الصفعة الثانية، في الطابور أمام المحطة ذاتها. لكنه في هذه المرة، كان في الموقع الآخر. أحس بشعور السائق الذي سبق وحاول رشوته، وفجأة تفهّم موقفه. حاول الكلام، كان فمه جافاً وعاجزاً عن النطق. فتح باب السيارة وانزلق منها ليبتلعه صخب الطابور وصمت الشارع الطويل.

حين عاد إلى البيت، كان والده مستيقظاً ينتظره بلا شك. ارتبك بشدة، وحاول الاعتذار بكلمات سريعة مفككة، لكن والده اكتفى بالتحديق فيه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها