الأحد 2018/06/03

آخر تحديث: 16:30 (بيروت)

"هيئة تحرير الشام":مناورة سياسية غير مثمرة!

الأحد 2018/06/03
"هيئة تحرير الشام":مناورة سياسية غير مثمرة!
عقدت قيادة "الهيئة"، مؤخراً، لقاءات مكوكية مع كوادرها، من أجل شرح مقتضيات التعامل مع التطورات الأخيرة على الساحة السورية (انترنت)
increase حجم الخط decrease
أضافت الولايات المتحدة "هيئة تحرير الشام"، الخميس الماضي، على لائحة الإرهاب، في تطور غير مفاجئ بالنظر إلى موقف واشنطن المستمر من "الهيئة" بمسمياتها المختلفة.

إلا أن ذلك لم يمنع الكثيرين داخل أوساط المعارضة من التوقف عند الخبر، خاصة أنه يأتي بعد أيام قليلة من تداول هذه القضية على مواقع التواصل الاجتماعي، تعليقاً على تصريحات نسبت/سربت لقائد "تحرير الشام" أبو محمد الجولاني يقول فيها، إن "الهيئة لن تكون مصنفة على لوائح الإرهاب، ما سيمنحها فرصاً استثنائية على الصعيد السياسي يجب استثمارها، من خلال الانفتاح أكثر على المحيطين الداخلي والخارجي".

لم يكن هناك ما يؤكد صحة تلك التصريحات بطبيعة الحال، وأفضل رواية يمكن أن تؤخذ بالاعتبار بخصوصها هو أنها كانت مسربة عمداً من قبل "هيئة تحرير الشام"، كرسالة غير مباشرة أقنع أحدهم "الهيئة" بتوجيهها إلى الإدارة الأميركية، التي كانت في طور تحديث لائحة الإرهاب الخاصة بها، الأمر الذي لم ينجح كما هو واضح في اقناع واشنطن بتغيير موقفها من التنظيم، على الرغم من إظهار قيادة "الهيئة" خلال الأسابيع الأخيرة الماضية، التي أعقبت قتالها الدموي مع "جبهة تحرير سوريا" و"لواء صقور الشام"، خطوات في اتجاه تبني المزيد من المرونة والواقعية السياسية تجاه الخارج.

وإلى جانب التواصل المستمر والناجح مع أنقرة لإدارة ملف نقاط المراقبة التركية في المناطق التي تسيطر عليها "الهيئة"، وهي نقطة ترى "تحرير الشام" أنها تمثل بيضة القبان على صعيد التسويق لنفسها خارجياً، فقد عقدت قيادة "الهيئة"، مؤخراً، لقاءات مكوكية مع كوادرها، من أجل شرح مقتضيات التعامل مع التطورات الأخيرة على الساحة السورية، وسياساتها المتبعة، أو التي سيتم تبنيها حيال هذه التطورات، والتي قد تشمل خطوات لا تنسجم والخطاب التقليدي للجماعة، ومبادىء الفكر الذي تتبناه.

في موازاة هذه اللقاءات، نشط الإعلام الرديف لـ"تحرير الشام" مؤخراً في الترويج للتغييرات المتوقعة بين جمهورها، حيث تفرغت معظم الشخصيات والحسابات التابعة للـ"الهيئة" أو الداعمة لها على مواقع التواصل الاجتماعي، للتسويق لهذه الانعطافة وشرح ضروراتها وأهميتها، والرد على الاعتراضات التي يمكن أن تواجهها أو التي بدأت تواجهها بالفعل من قبل الخصوم من مختلف التيارات، لكن كل ذلك لم يصل إلى الحديث عن امكانية حل الفصيل، كما تحدث طيف واسع من المعارضة الذي بشر بهذا الخبر، وحذر منه في الوقت نفسه لاعتبارات مختلفة.

لكن الخطوة الأهم على الإطلاق في سياق الخطوات التي تبنتها "هيئة تحرير الشام" من أجل تجنيب نفسها خطر التصنيف، كانت في استحداث "إدارة الشؤون السياسية"، وتسمية يوسف الهجر رئيساً لها، وظهور الأخير الفوري على وسائل الإعلام لإيصال الرسائل العاجلة التي كان يحملها، قبل أقل من أسبوع على إصدار واشنطن النسخة الأخيرة من لائحة الإرهاب الخاصة بها، التي أثارت حفيظة "الهيئة" وأنصارها، كما إتضح من ردود الفعل على إضافة "تحرير الشام" للقائمة.

ببذلة رسمية مدنية، وليس بالجلباب أو الزي العسكري، وبلحية خفيفة جعلته يبدو كأحد قادة حركات المقاومة الإسلامية التقليدية في المنطقة، المتمايزة جداً عن هيئة رجال الجماعات السلفية الجهادية، أطل المسؤول السياسي الجديد لـ"هيئة تحرير الشام" يوسف الهجر في أول ظهور إعلامي له، ما أثار الانتباه والجدل إلى الحد الذي طغى فيه المظهر الخارجي للرجل على مضمون تصريحاته.

كلام الهجر لم يحمل في الواقع أي جديد مهم يمكن التوقف عنده أو البناء عليه، فإلى جانب التغزل بالعلاقة مع تركيا، وامتداح مواقفها السياسية والانسانية تجاه الثورة والمعارضة السورية، كما هو متوقع، حمًل الهجر مجدداً الفصائل الأخرى مسؤولية تدهور موقف المعارضة، وإضطرار "هيئة تحرير الشام" للقبول بتطبيق مخرجات مسار أستانة، على حد قوله، مؤكداً بهذا الصدد تجميد أي مشروع للتوحد والاندماج مع الفصائل، والتمسك باستمرار "تحرير الشام" فصيلاً مستقلاً متمسكاً بمبادئه وأهدافه ذاتها، وساعياً في الوقت نفسه الى التعاون مع أي طرف من أجل تحقيق هذه الأهداف.   

التصريحات كانت متحفظة بالمجمل، يمكن ترجمتها بعبارة أخرى مختصرة "هي أن بامكان دول المنطقة والعالم أن تحذو حذو تركيا في التواصل بشكل مباشر مع "هيئة تحرير الشام"، من أجل مناقشة مستقبل الشمال بشكل خاص، وسوريا بشكل عام، بعد أن أثبتت "الهيئة" أنها قوة قابلة للتفاهم، وقادرة على القيام بمسؤولياتها في أي اتفاق تعقده، ناهيك طبعاً عن أنها القوة الأكبر بين فصائل المعارضة" كما أكد الهجر.

أما داخلياً، فقد كانت الرسالة التي وجهها المسؤول السياسي الجديد لـ"تحرير الشام" تقول بوضوح بأن الهيئة لن تكون بعد اليوم بوارد القبول بمشاركة بقية الفصائل في إدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها، وهي مناطق واسعة في الشمال، تهيمن عليها الهيئة بمفردها تقريباً، وتديرها عبر "حكومة الانقاذ" التابعة لها، والتي يقول مقربون من "تحرير الشام"، بالمناسبة، إن "الهيئة" بصدد إجراء تعديلات عليها، تحسم تبعية هذه الحكومة تماماً، بعد أشهر من تقديمها كمؤسسة إدارية مستقلة، نفت "تحرير الشام" باستمرار تبعيتها لها، ودعت الجميع لتبنيها والمشاركة بها.

لكن هذه اللهجة ستختلف بعد ساعات فقط من إضافة واشنطن "الهيئة" على لائحة الإرهاب، وهو التغيير الذي بدا جلياً في البيان الصادر عن الإدارة السياسية لـ"تحرير الشام"، الأمر الذي يعبر عن إضطراب وعدم وجود استراتيجية متكاملة لدى "الهيئة" حتى الآن؛ فالإدارة السياسية التي رأت على لسان رئيسها قبل أيام فقط أن "الهيئة" هي الفصيل الأكبر والأقوى، وأنها لم تعد مهتمة بأي خطوات توحد أو اندماج مع بقية الفصائل، التي اتهم الهجر أكثرها بالتفريط والتخلي عن الثورة، عادت في بيانها الصادر، الجمعة الماضي، لمخاطبة هذه الفصائل بلغة الأخوة والشراكة، والدعوة للوقوف بجانب "الهيئة" في مواجهة القرار الأميركي. وقد حرصت "الهيئة" بشكل لافت على إخراج بيانها من دون لهجة تحدٍ للقرار الأميركي، بل على العكس من ذلك، كان التعليق عليه طافحاً بالهدوء والدعوة لحوار ممكن، من أجل عدم تكرار أخطاء الإدارة الأميركية السابقة في سوريا والمنطقة، وبما يفيد في مواجهة أعداء مشتركين للطرفين.

والواقع أنه إذا كان لدينا ما يمكن مناقشته في ما يتعلق بتوجهات ملموسة لدى "هيئة تحرير الشام" من أجل مزيد من الانفتاح والبراغماتية السياسية، فهو هذا البيان وليس ما سبقه من تصريحات أو تسريبات أو تكتيكات. ويمكن القول إن البيان الأخير يمثل أكثر مواقف "الهيئة" التي ينطبق عليها وصف السياسي، منذ تأسيس "جبهة النصرة" إلى اليوم، وأنه أكثرها شجاعة في التعبير عن الانفتاح على التغيير، إذ غابت وللمرة الأولى تقريباً مفردات الخطاب السلفي الجهادي التقليدي، من دون أن ينفي ذلك الارتباك والتسرع الواضحين في صياغة هذا البيان.

وعندما نقول إنه الموقف الاشجع، فهذا يتعلق بإقدام قيادة "الهيئة" على الذهاب بعيداً في توجهاتها الجديدة، دونما إيلاء أهمية معتبرة، على ما يبدو، لما يمكن أن تثيره هذه الخطوة المتقدمة من ردود فعل سلبية ضدها، داخل التيار الجهادي الناقم عليها أصلاً، بل وحتى داخل صفوفها، حيث لا يزال يوجد العديد من صقور التيار الذين لم يتأخروا بالفعل عن الغمز من قناة هذا البيان، كتعبير عن عدم الرضا عنه.

أبو اليقظان المصري، أحد القادة الشرعيين في "الهيئة" قال بعد قليل من صدور البيان، في منشور له على قناته في "تليغرام": "إذا خلا الخطاب السياسي لجماعة مجاهدة من الاستعلاء بعزة الاسلام على الكفار الذين أذلهم الله، ستنطفئ جذوة الجهاد في قلوب أبناء تلك الجماعة".

مواطنه أبو شعيب، الشرعي الآخر في "الهيئة"، انتقص من البيان، ولكن من زاوية أخرى، حيث عدد الأخطاء اللغوية فيه، وانتقد بعض العبارات التي وصفها بالركيكة، وهو مؤشر بالنسبة للكثيرين عن خلافات وعدم انسجام داخل الهيئة بهذا الخصوص.

وعليه، يمكن الحديث بثقة عن تحديات مؤكدة ستواجهها قيادة "هيئة تحرير الشام" في حال تبنت بشكل علني وكامل السياسة الجديدة، التي لم تكن بعيدة عنها تماماً في السابق، لكنها كانت أكثر حذراً في الموازنة بينها وبين مراعاة الخطاب الايديولوجي الذي تتبناه وتقوم عليه كأساس، الأمر الذي يطرح أسئلة كبيرة حول قدرة هذه القيادة اليوم على المضي حتى النهاية في هذا التوجه.

لكن من خارج التنظيم، فإن الجميع متفق تقريباً- بعد أن آلت القيادة بشكل كامل للفريق المؤيد لأبو محمد الجولاني- على أن هذا الفريق لم يكن يوماً إلا براغماتياً بامتياز، استطاع أن يستثمر في كل المراحل والظروف والشخصيات التي كانت أو ما تزال داخل "الهيئة"، بمن فيهم الذين يوصفون بالصقور، ويقولون إن من تبقى من شخصيات مرشحة لأن تكون مثيرة للمتاعب، ليست قادرة على فعل الكثير، بل وأكثر من ذلك، فإنها أضعف من أن تخرج عن إرادة القيادة، وستدور حتماً في فلكها كيفما دارت، وستجد دائماً التبريرات والتخريجات لكل ما يقرره الجولاني وفريقه.

إضافة إلى ذلك، فإن من تبقى من مقاتلين وكوادر في صفوف "الهيئة" اليوم، بعد مغادرة وانشقاق مئات آخرين منذ إعلان فك الارتباط بتنظيم "القاعدة" حتى الإعلان عن تشكيل جماعة "حراس الدين"، هم الفئة الأقل تشبعاً بالفكر الإيديولوجي السلفي الجهادي، والأكثر انسجاماً مع براغماتية القيادة، وسيكونون مرحبين بكل ما من شأنه أن يؤدي إلى التهدئة العسكرية، بعد سنوات من الحرب المرهقة، خاصة وأن قيادة "تحرير الشام" بدأت تركز في خطابها أيضاً على أهمية الجانب التنموي في مناطق سيطرتها، وضرورة معالجة المشاكل الأمنية والخدمية والمعيشية القاسية فيها.

لكن يبقى السؤال الأهم حول مستقبل "الهيئة"، المرتبط بدرجة أساسية، كما هو معلوم، بالموقف الإقليمي والدولي منها، فكل التحديات التي يمكن أن تواجهها في الداخل، لا تمثل خطراً حقيقياً على هذا المستقبل، ما لم تتعرض المناطق الخاضعة لسيطرتها لعملية عسكرية دولية كبيرة، تأمل "تحرير الشام" أن تكون المعطيات الحالية معيقة لها، خاصة في ما يتعلق بالنتائج التي قد تترتب على مثل هذه العملية، لجهة تفجر موجة نزوح جديدة، ستكون تركيا أكبر المتضريين منها. وعليه، تدرك "الهيئة" مخاوف الجارة والعالم، ربما، من هذه النقطة وتسعى لاستثمارها، على أمل كسب وقت أكبر قد يتغير فيه الكثير.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها