الأربعاء 2018/11/07

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

المؤتمر 12 للشيوعي السوري: ما سر الولع بالرقم 3؟

الأربعاء 2018/11/07
المؤتمر 12 للشيوعي السوري: ما سر الولع بالرقم 3؟
اعادة اجترار شعارات الحزب الانشائية (انترنت)
increase حجم الخط decrease
عقد الحزب الشيوعي السوري "بكداش"، مؤتمره الثاني عشر، قبل أيام، في العاصمة السورية دمشق. ولم يستمر المؤتمر أكثر من 48 ساعة، موزعة على ثلاثة أيام، وحضره أقل من 200 مندوبٍ جاؤوا من "بعض" المناطق السورية.

انهارت منظمات بأكملها للحزب مع خروج مناطقها عن سيطرة "الدولة" كما حدث في ديرالزور والرقة ودرعا وإدلب. وعدا إدلب، فتلك المنظمات هامشية للحزب. وحافظت منظمات الحزب على تواجد خجول في مناطق سيطرة "وحدات حماية الشعب" الكردية، خاصة في الحسكة، المنظمة الأكبر تاريخياً للحزب، والتي كانت عرضة لشروخ وصراعات تنظيمية دائمة تغذي نيرانها أطراف مختلفة بما فيها قيادة الحزب.

المنظمات الباقية انهارت عملياً، ولم يعد يتجاوز عدد أعضائها بضع عشرات، وفي أحسن الأحوال قد يتجاوز المائة كما في دمشق وحلب وحماة والسويداء. أي أن أعضاء الحزب الشيوعي السوري في ذكرى تأسيسه الرابعة والتسعين، لا يتجاوز الألف، بمن فيهم بضع عشرات من اللاجئين في ألمانيا.

الانهيار ليس ناتجاً عن ظروف الحرب فحسب، بل ساندته عوامل متعددة. الحزب وعلى مر تاريخه كان عرضة لصراعات تنظيمية شديدة، مع استثناءات قليلة كان الصراع فيها فكرياً، كما حدث في نهاية ستينيات القرن العشرين انعكاساً للصراعات الفكرية ضمن الحركة الشيوعية العالمية بين الايديولوجية السوفياتية والماوية والأوروبية الجديدة. حتى في تلك الفترة بقي الحزب الشيوعي السوري خارج هذه النقاشات، واتهم كل من حاول نقاشها بشتى التهم بما فيها العداء لحصن الشعوب السوفياتي.

الحزب كان قد شهد في مؤتمره الثالث في العام 1969 صراعاً فكرياً بين تيار يحاول المزاوجة بين أفكار القوميين العرب والماركسية وبين تيار يحاول الابقاء على سياسة الحزب دون تغيير، والابقاء على خالد بكداش أميناً عاماً للحزب. ونتج عن هذا الصراع انشقاق "الحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي" بقيادة رياض الترك.

الانشقاقات اللاحقة ألبست لبوساً فكرياً فضفاضاً؛ فسمي استبعاد مراد اليوسف عن الحزب نهاية السبعينيات بانشقاق التيار اليساري المغامر، أما انشقاق يوسف الفيصل نهاية الثمانينيات فدعي بانشقاق التيار الاشتراكي الديموقراطي، (أعيدت تسميته بالحزب الشيوعي السوري الموحد) واعتبرته قيادة الحزب تياراً تحريفياً يمينياً. ومن غير المعروف سبب حساسية قيادة الحزب الشيوعي من كلمة انتهازية، إذ لا تستخدمها وتستبدلها بكلمة "تحريفية" الفضفاضة جداً على المتهمين بها.

"مجموعة قاسيون" المنشقة نهاية التسعينيات، التي أسست في ما بعد "اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين" ثم لاحقاً "حزب الارادة الشعبية" بقيادة قدري جميل، وصفتها قيادة الحزب في العام 2000 بالشرذمة التروتسكية، رغم أن أعضاءها يفاخرون بستالينيتهم.

بعد العام 2000 تحول الحزب الى ساحة صراع تنظيمي واسع انهارت على إثره منظمات وتمزقت أخرى بأوامر سرية من القيادة. فكان خرق النظام الداخلي وابعاد أعضاء الحزب من دون حجج أو أسباب، يُقابلُ بصمت القيادة التصفوية التي تخشى المواجهة على كل الصعد، بينما ترفع شعار "تصليب الحزب من خلال تطهيره بهدف تكوين نواة ثورية صلبة بانتظار الانعطافة التاريخية".

وهكذا دخل الحزب مرحلة الأزمة السورية متفتتاً لدرجة أن أعضاء الحزب يتعاملون في ما بينهم بعدائية تصل حدود عدم القاء التحية، حتى في الاجتماعات الحزبية، بينما يسبحون بحمد سياسة الحزب وقادته.

مع بدء الحرب السورية غابت القيادة "الخبيرة والمجربة" وفق تعابير الحزب، ولم تستطع الاعلان عن مواقفها إلا متأخراً وبشكل متردد وموارب أغلب الأحيان، لأسباب غير مفهومة. فالقيادة موالية للنظام، من حيث الموقع السياسي، لكنها ترددت في اعلان ذلك ولو إلى حين.

أعضاء الحزب انتظروا رأي القيادة كما اعتادوا على مر السنين، وهم أقرب للمحافظة السياسية في الممارسة اليومية، كحزب متحالف مع الحزب الحاكم منذ نصف قرن. وأيضاً محافظين من خلال الموقع الطبقي، باعتبار الأعضاء أغلبهم من الموظفين الحكوميين وملاك الأراضي متوسطي الحال، وهي الصفة السائدة للقيادات الحزبية العليا والوسطى، مع وزن مهم للمتقاعدين. مفهوم التفرغ الحزبي بات صنوا للموظف الحكومي، فعضو الحزب المتفرغ هو موظف حكومي يمارس البطالة المقنعة في وظيفته، بتعبير آخر "مفيش".

وبسبب سياسة النعامة التي اتبعتها قيادة الحزب تجاه الأزمة شهد الحزب نزيفاً غير مسبوق في الأعضاء، إذ تحولوا إلى لاجئين في دول الجوار وصولاً إلى أوروبا مع تحول في مواقفهم وانتقال من الاعجاب الشديد بالقيادة إلى كراهية وعداء. ترافق ذلك مع تفسخ أخلاقي في المستويات القيادية، ولا أعني الأخلاق الشخصية فهي لا تهم إلا مدعي العفة والعاملين في مجال الدعاية والدعاية المضادة، بل في آلية توزيع المغانم والمكاسب من خلال الوجود في أجهزة الدولة وكيفية الوصول إلى المناصب الحزبية كمقدمة للمناصب الحكومية على قاعدة الولاء أولاً لا الكفاءة. وهو ما يتطابق مع الفكر المنتشر في الجهاز الحكومي السوري.

الحزب الهزيل دخل مؤتمره الثاني عشر، بمزيد من الهزال، مكتفياً باعادة اجترار شعاراته الانشائية؛ "وطن حر وشعب سعيد"، و"الدفاع عن الوطن ولقمة الشعب"، و"سوريا لن تركع". وكذلك بمواقفه الإعلامية خلال الحرب، مع تغير أساسي مهم؛ القبول بمفهوم الحوار وإلى حد ما "المصالحة"، وهما مفهومان دأبت قيادة الحزب على رفضهما خلال سنوات الحرب. ميدانياً، لم يستطع الحزب تقديم كشف حساب عما قدمه، سوى بتعداد أعضاء قتلوا غيلة في ظروف غامضة، أو كمداً في ظروف الحرب.

على الصعيد السياسي أعاد الحزب الالتزام بأركان سياسته الموضوعة منذ الستينيات، المتمثلة بالتحالف مع جميع القوى "الوطنية" و"التقدمية"؛ التحالف مع "حزب البعث" في إطار "الجبهة الوطنية التقدمية"، والحفاظ على وجه الحزب المستقل في القضايا المبدئية والقضايا السياسية الكبرى، والدفاع المستمر عن "مصالح الجماهير". وكما هو معتاد، فالبند الأول ينسخ ما بعده بـ"المنعطف التاريخي" المستمر منذ عقود.

وفي فتح فكري جديد أضاف الحزب إلى "أركانه الثلاثة"، ثلاث مهام أساسية هي: "الدفاع عن الاستقلال الوطني"، و"الدفاع عن السيادة الوطنية الكاملة"، و"النضال من أجل وحدة التراب الوطني وتحرير آخر شبر منه".

مهام تطرح مجموعة من التساؤلات، أولها ما الفرق بين المفاهيم الثلاثة؛ الاستقلال، السيادة، التحرير، وهل يوجد استقلال دون سيادة كاملة، وهل النضال لتحرير الأرض هو مفهوم مستقل عن السيادة والاستقلال، ولماذا الاصرار على الرقم ثلاثة؟ ربما يكون هذا اعجازا رقمياً لسياسة الحزب الشيوعي السوري القائمة على ثلاثة أركان، ينبت من كل ركن منها ثلاث مهام، بانتظار ثلاثيات جديدة في اظهار وجه الحزب المستقل والجميل والهادئ، وثلاثية أخرى للدفاع عن مصالح الجماهير اللطيفة والمرنة والمتساهلة.

المهام البرنامجية اعتبرت بحكم الملغاة، لأن تطور الأحداث تجاوزها، خاصة ما يسمى "البرنامج الديموقراطي للحزب"، وتم تكليف اللجنة المركزية الجديدة بصياغة مهام جديدة قد تستغرق الزمن الفاصل مع المؤتمر المقبل لصياغتها، كما جرت العادة. في قاموس الحزب لا يوجد ما يسمى ثورة اشتراكية أو انتفاضة جماهيرية أو حتى اضراب، إلا كنوع من الترف الفكري. وللبرنامج الديموقراطي لدى الأحزاب اليسارية الأخرى سقوف أعلى للمطالب. على الصعيد الفكري، لا يستطيع الحزب تقديم أي جديد، وهذا أمر طبيعي. فقيادة الحزب بما فيها المكتب السياسي لم تطلع على تراث ماركس وانجلس ولينين، ما خلا البيان الشيوعي وبعض الأدب السياسي. أحد أعضاء القيادة يُفاخرُ أنه قرأ رأس المال لماركس، بالكامل، بحكم تأهيله الجامعي، أما الباقي فينعمون بالقيلولة في الاجتماعات الحزبية.

وقد تمخض المؤتمر عن انتخاب قيادة جديدة مؤلفة من القيادة القديمة، وملء شواغر بطريقة التطعيم العائلي والحكومي. فقد تحول الحزب، منذ زمن، إلى اتحاد لعائلات تتبنى الشيوعية. والهيئات القيادية بما فيها اللجنة المركزية أشبه بـ"لويا جيرغا" هذه العائلات، تتقاسم المناصب والامتيازات والمصالح الاقتصادية خاصة العقارية.

الحزب الشيوعي السوري في عامه الرابع والتسعين، كيان ملحق بالمؤسسات الحكومية، يتبنى الممارسة الخروتشوفية المتمثلة في تقديم المشورة الاقتصادية للأنظمة الحاكمة، بهدف تخفيف الاحتقان الشعبي للقواعد الجماهيرية، ويعاتبون تلك الأنظمة التي لا تأخذ برأيهم ولن تأخذ. واحتراماً للموضوعية، يأخذ الحزب من ماركس شعار "يا عمال العالم اتحدوا" ليغطي به على خليط غير متجانس من الأفكار القومية العربية والاشتراكية الوطنية، ويأخذ من لينين مقولة التنظيم الحديدي (التنظيم يجب أن يكون عسكريا في أيام الحرب وشبه عسكري في أيام السلم) فحوّل الحزب إلى طبقات غير مخترقة أو مختلطة من الضباط والمساعدين والأفراد غير القادرين على الارتقاء من طبقة إلى أخرى، إلا بـ"صدفة تاريخية". ومن ستالين أخذ عبادة الفرد والأوامر الفوقية والطاعة الحزبية للأفراد والمساعدين. أما القيادات فهي فوق النقاش والشبهات. ويحاول الحزب منذ سنوات تبني بعض المقولات الماوية السلمية، لكنه يخشى غضب الأحزاب الشيوعية الأوروبية التي يتشدق بصداقتها، وهي من صداقة الحزب براء.

أكبر خدمة كان يمكن للحزب أن يقدمها للشعب السوري وللشيوعيين، في عامه الرابع والتسعين، لو دُفنَ بسلام. فالحفاظ عليه بحالة موته السريري أصبح مكلفاً للغاية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها