امرأة تستغيث فيخذلها الصراخ، وشيخ يحاول إنقاذ طفل فيلقاه الموت، وعائلة لم ينج منها إلا من يروي قصة رحيلها، وجثث متناثرة في الأزقة والشوارع؛ هي صور من شهادات بعض الناجين من مجزرة الكيماوي، أكبر وأفظع المجازر في القرن 21، مجزرة دون دماء ولا أشلاء.
مضى عام كامل على مجزرة الكيماوي بالغوطة الشرقية، ولكن مشاهدها المروعة لم تغادر بعد مخيلة الناجين منها، ممن كانوا شهوداً على هول المناظر في المنازل والشوارع والأزقة والحارات. ويختزن الناجون في ذاكرتهم الكثير من المشاهد والتفاصيل التي عجزت وسائل الإعلام عن نقلها، فالمفاجأة أصاب الجميع بالذهول، وانتشار الجثث على مساحة أكثر من ثلاثة آلاف متر مربع، كان صادماً ومخيفاً.
إلقاء صواريخ محملة برؤوس كيماوية، على أحياء مكتظ بالسكان، قتل أكثر من 1300 مدني، فيما تأثر أكثر من 1800 نتيجة استنشاق غاز السارين. الصواريخ استهدفت المنطقة الواقعة بين زملكا وعربين، وبين زملكا وعين ترما، وبين زملكا وحزة، وفي زملكا عند مسجدي التوفيق والحمزة، وهي مناطق خالية من مقاتلي المعارضة. ولا يريد السوريون اليوم بعد مرور عام على الكارثة، أن ينسوا المجزرة. على الرغم من آلامها يستذكرونها، ويستحضرون صور شهدائهم وأطفالهم، لتزيدهم إصراراً وعزيمة على إرادة الحياة والحرية والكرامة، التي مازلوا يدفعون ثمنها الباهظ.
أحد الناجين من عائلة كانت تعد 12 شخصاً، المختار أبو سليمان حزرومة، قال لـ"المدن": "كانت الفاجعة أكبر من الاحتمال، مزقني منظر الأطفال الذين خنقتهم الغازات، يوم بدا كأنه كيوم القيامة". فما شاهده أهالي الغوطة ذلك اليوم يعمّق الجراح، والمشاهد المرعبة التي عايشها الناس ستظل ترافقهم مدى الحياة. يكمل المختار: "أن ما حدث لا يتخيله العقل".
مدير المكتب الإعلامي لبلدة زملكا يتذكر المجزرة: "الزمن عقب المجزرة كان يحسب بالدقيقة، من أجل إنقاذ المصابين أو نقل الجثامين". ويضيف "سمعنا صوت سقوط صاروخ، له صوت مرتفع جداً، وكأنه تفريغ لغاز مضغوط بشدة. الدخان الناجم عن الصاروخ كان أزرق اللون".
لم يترك الموت للسكان سوى الانتظار في المستشفيات أو الخروج لملاقاته في الشوارع. ويروي أحد الناجين، أنه ما إن هدأت أصوات الانفجارات، حتى هرع الناس مذعورين باتجاه مناطق لم يصبها السارين، كسقبا وحمورية وكفربطنا وجسرين، تاركين قتلاهم في الشوارع والبيوت.
يقول مدير مستشفى ميداني كان مناوباً وقت المجزرة، بأن الحالات التي وصلت المشفى، كانت مصابة بضيق شديد في التنفس، واصفرار كامل في الجسد، وتضيق في الحدقة الدبوسية للعين. وأن بعض الحالات كان لديها تسرع شديد في نبض القلب، وتعرق كثيف، بالإضافة إلى فرط لعاب بشكل رغوي من الأنف والفم، وتشوش في الرؤية، وهلوسات. الإصابات تراوحت ما بين خطيرة وشديدة الخطورة، بحسب أماكن التواجد، وبحسب كمية الغاز التي تم استنشاقها.
محمد الشمس، من بلدة زملكا، لا زال يشعر بالمرارة نتيجة عجزه عن إنقاذ أسرة أحد أقربائه التي قضت جميعها، وظلت جثث أفرادها في بيتهم لأكثر من 12 ساعة. ويقول محمد إن قلبه يحترق كلما تذكر أنه فشل في إنقاذ الناجية الوحيدة من عائلة ابن عمه، "من الصعب أن يستنجد بك أحد، وأنت لا تستطيع أن تفعل له شيئا". ويضيف "كانت قريبتي تستغيث وتقول أنا عايشة.. عايشة يا محمد.. أنا عايشة. لكنني لم استطع فعل شيء لها".