بدأ تنظيم "أنصار بيت المقدس" في مرحلته الأولى موالياً لقاعدة الجهاد بزعامة أيمن الظواهري، الذي لم يبخل عليهم بالثناء في تسجيلاته الصوتية. لم يترددوا بدورهم في اقتباس ثناء زعيمهم عليهم في إصداراتهم المرئية الأولى، التي أعلنوا فيها مسؤوليتهم عن استهداف خط أنابيب الغاز الطبيعي الذي كان يصدر الغاز من مصر إلى إسرائيل عبر سيناء. ومع التراخي الأمني، توثقت العلاقات بين الجهاديين في سيناء مع نظرائهم في سوريا، فانعكس الشقاق بين جبهة النصرة، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، على الوسط الجهادي في سيناء، فصار فيها جناحان يؤيد كل منهما أحد الطرفين الإقليميين.
كان وادي النيل في منأى عن نشاط الإسلاميين الجهاديين، إلا من بعض التسهيلات اللوجيستية، وخطوط تهريب السلاح إلى سيناء. تصدر المشهد في غير سيناء، الإسلاميون السياسيون، الذين لم يسلموا من توبيخ "أنصار بيت المقدس" في تسجيلاتهم وإصدارتهم، لتذكيرهم بأن طريق إقامة الخلافة ليس ديموقراطياً، وليس فيه برلمان ولا انتخابات ولا مبدأ المواطنة. انحصرت عمليات الجهاديين في سيناء، وكانت موجهة ضد المصالح والقوات الإسرائيلية على جانبي الحدود الدولية.
بعد استيلائه عملياً على السلطة في 3 يوليو/تموز 2013، استخدم الجيش المصري القوة الضاربة من أجل إثبات التزامه بمعاهدة السلام، التي تنص على منع كل طرف أية أعمال عدائية صادرة من أراضيه ضد الطرف الآخر. وجدت التنظيمات المسلحة في سيناء، وعلى رأسها "أنصار بيت المقدس"، نفسها في حالة اشتباك اضطراري مع القوات المصرية، ودفعت حقائق التنسيق الأمني المشترك بين الجيشين، المصري والإسرائيلي، كثيراً من قادة هذه التنظيمات وأعضائها إلى الميل للتكفير الصريح للجيش. ثم وقعت المذابح في صفوف أنصار الإسلام السياسي، مقترنة بصيام بعضهم أو صلاتهم أو حصارهم في المساجد. فلم يكن مستغرباً أن يتجه "الأنصار" إلى تكفير كل أفراد الجيش، ومن فيهم من مجندين إجبارياً.
لم يأل الجيش المصري جهداً في استفزاز "أنصار بيت المقدس" بطبيعتهم البدوية الثائرة والريفية المحافظة، فانتقلت عملياتها إلى مديرية أمن جنوب سيناء، ثم محاولة اغتيال وزير الداخلية في قلب القاهرة، واستهداف مبنى المخابرات العسكرية في الإسماعيلية، ثم مديرية أمن الدقهلية، ثم مديرية أمن العاصمة. ارتبط تقدم "داعش" في سوريا شرطياً بتطور خطاب "أنصار بيت المقدس" نحو التوسع في التكفير. كما اختفى ذكر القاعدة وزعيمها الظواهري من تسجيلاتها الصوتية والمرئية، في مقابل الحضور القوي لذكر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.
لأول مرة في التاريخ العسكري المصري، تسقط طائرة مقاتلة بصاروخ ميليشيا، لا جيش محارباً. وبالتزامن مع إسقاط أنصار بيت المقدس لمروحية الاستطلاع المصرية في شمال سيناء، استهدف التنظيم مدينة إيلات بصاروخ جراد مرتين في الأسبوع ذاته.
أظهر "الأنصار" أن أربعة شهور من العمليات العسكرية الموسعة ضدهم في سيناء (بدأت العمليات رسمياً في 7 سبتمبر/أيلول 2013) لم تؤثر في قوتهم ولم تحقق هدفها الإقليمي المشترك مع إسرائيل. انحسرت عمليات "الأنصار" في وادي النيل، وظهر تنظيم "أجناد مصر" مستعرضاً مهاراته في عدة عمليات، كان أشهرها القنابل الثلاث التي استهدفت قوات الشرطة في محيط جامعة القاهرة أبريل/نيسان المنصرم.
كان السؤال الذي يطرحه كثيرون متعلقاً بمصادر تمويل التنظيمات في مصر وآليات تدفق الأموال من التنظيمات الكبرى الراعية إقليمياً ودولياً. أما الآن، وبعد أن استولى تنظيم "داعش" على ما يقرب من نصف مليار دولار من المصرف المركزي في الموصل، لم يعد سؤال التمويل ذا أهمية في كيفية إجرائه، بل الأهم الآن هو تحدي دعم التنظيمات المصرية بتمويلات كبيرة من "غنائم" معارك العراق.
الارتباط الأكبر والأخطر بين تقدم "داعش" في العراق وبين آثاره في جهاديي مصر، هو ارتباط معنوي والإحساس بالفخر والإعجاب الذي قد يسهم في توسيع دائرة الجهاديين الجدد، ممن سئموا العمل السياسي وكفروا بالسلمية في مواجهة جرائم السلطة وفظائع انتهاكاتها. على الرغم من إعلان "داعش" موقفها من الإخوان ورأيها الصريح في تكفير الرئيس المعزول محمد مرسي، إلا أن "أنصار بيت المقدس"، الموالية لداعش، لا تصطدم بقواعد الإخوان في خطابها العلني، على أمل أن ينجحوا في استقطاب أعضاء جدد من شباب الإخوان وأنصارهم.
نظرة سريعة على صفحات شباب الإسلاميين المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر حجم النشوة الأيديولوجية والمذهبية، التي تسببت فيها أخبار العراق الأخيرة. ولأن الإلمام بأوضاع العراق والشام ليس شائعاً في مصر، فإن التحدي الأكبر الآن أن يتحول خيال قواعد الإسلاميين وشبابهم من خيال سياسي رحب إلى خيال قتالي وجهادي ضيق. تلك هي الأرضية التي ستنمو فيها شبكة الارتباط الشرطي الوثيق بين انتصارات "داعش" وبين تدهور أحوال مصر الأمنية في الشهور، وربما السنوات، القادمة.