يوميات من "ثورة تشرين" المؤنثة والمجيدة (2)

ريم جبر
الأربعاء   2019/11/27
الطابع "المديني اللبناني" سمة الشابات والشباب اللواتي والذين اعتصمن واعتصموا على جسر الرينغ (علي علّوش)

هي يوميات شابة لبنانية في ساحات الاعتصام وخارجها. هي مشاهدات ومفارقات، وتحولات في اللغة والأفكار، تدونها وتتذكرها. هنا الجزء الثاني.

ما بعد هجوم "الزعران"
في طريق العودة، طلبتُ من أمام المحطة تقريباً سيارة أوبير، قال أن الطرقات "مسكرة" ولكن حال الطرق كان سالكاً ومشرعاً.

وفي اليوم التالي، أخبرتنا نبيلة عما اختبرته مساء الهجوم على الاعتصام السلمي. فهي ما إن بدأ الهجوم بالعصي على الشابات والشباب المعتصمين على جسر الرينغ، جادة فؤاد شهاب على ما يحب كثر التذكير، حتى ركضت باتجاه ساحة الشهداء لتكمل هناك الاعتصام على ما حسبت. فرأت المعتصمين هناك يفرون باتجاه الجميزة. فقررت شرب فنجان قهوة في مقهى "بول"، وهناك لقيت أن الهاربين مثلها من الرينغ وساحتي الشهداء ورياض الصلح لجأوا إلى المقهى وجواره، حيث شكل جنود من الجيش اللبناني مثل درع لحمايتهم. وهناك سمعت شجباً للشيعة "وحوش شو هيدا، جئناهم بكل محبة وسلمية فهجموا علينا"، قالت سيدة ترتدي الأبيض وشعرها مصفف. ووافقها كثر. وشعرت نبيلة بالحرج، وراحت تتستر على اسمها ومكان سكنها حين تبادلت الأحاديث مع سيدة مذعورة تقف أمام "بول" استلطفتها بعد تبادل أطراف الحديث ودعتها إلى شرب القهوة في منزلها. ولكن نبيلة تهربت من الدعوة، وتسترت على انتمائها إلى جماعة "الوحوش"، على رغم أنها قبل أيام في ساحة رياض الصلح دافعت عن شاب اتهمه آخر بشتم أمين عام حزب الله، قائلة إنها تقف إلى جانبه ولم يتفوه بشتيمة، وأنها شيعية ومن النبطية ولا تقبل التجني عليه. ولكن حين لاقى دفاعها عن الشاب استحسان مجموعة من الرجال والنساء "شكلن قوات"، شكرتهم ورفضت دعوتهم إلى الوقوف إلى جانبهم في الاعتصام. فهي لا تريد الانضمام إلى صدر أي جماعة، سواء كانت مسيحية أو مسلمة، على ما قالت مازحة. وأمام شجب الجمع للشيعة، شعرت أنها متهمة مثل تلميذ في المدرسة يريد النجاة من التوبيخ. وهي شيعية نعم، ولكنها كذلك وقبل ذلك لبنانية وفرد(ة) تزجي وقتها بعد العمل في سينما "ميتروبوليس" مع أصدقاء هم أفراد مثلها من طوائف مختلفة. فمرافق شارعي الأشرفية والحمرا احتضنت وتحتضن مثل هؤلاء اللبنانيين الأفراد حيث يتخفف واحدهم من الجماعة التي يتحدر منها في مرافق عيش مدينية، السينما والمسرح ونوادي الرقص والسباحة.

ساحة الاعتصام المدينية
وهذا الطابع "المديني اللبناني" الذي لا تطغى عليه عصبية أهلية ربما هو وراء مشاركة شابات محجبات في قطع طريق الرينغ، وواحدة منهن جلست ذات مساء في منتصف الطريق ملتفحة بالعلم اللبناني وأخرى حملت "رفراف سيارة" سكرت بواسطته المخرج الغربي للرينغ غير البعيد عن بنك عودة، ورقصت سيدة أخرى مع الشباب والشبان على وقع موسيقى الثورة.

وهذا الطابع "المديني اللبناني" يسري في أوصال الشابات والشباب اللواتي والذين اعتصمن واعتصموا على جسر الرينغ أياماً طويلة. وبعيداً عما يقال عن "خوات" تُفرض، كان "قطاع الطرق" يجلسون في منتصف الطريق وحين يقترب أحد بسيارته يقفون ويبدأون بالغناء "هيلا هيلا هيلا هو الطريق مسكر يا حلو". ويدعونه إلى النزول من سيارته والغناء معهم وإذا ما فعل، فتحت الطريق أمامه وكأن "هيلا هلا هو" العبارة السحرية صنو "افتح يا سمسم". وشاهدت سيدة جالسة إلى جانب السائق في سيارة رُكنت في وسط الطريق بسبب تعذر المرور، فبدأت شابات "قاطعات" للطريق يعتذرن ومثلهن فعلتُ، فأجابت السيدة "لا لا ما في إزعاج، أنا جئت من الجبل من أجل (اختبار) ذلك". فقالت إحدى الشابات الحذرات اللواتي بعد حادثة القادمين من "الخندق الغميق"، صرن يتحفظن عن ذكر أسمائهن وأماكن سكنهن، قالت وأنا مثلك من الجبل.

والحذر ساد أوساط المعتصمين بعد الانقضاض عليهم في نهاية تشرين الأول المنصرم، وصارت الشابات تحذر من "طابور خامس"، وسألتني واحدة منهن بعد تحذيري إذا كنت أعرف معنى العبارة. وأشارت إلى شاب يرفض فتح الطريق أمام سائق سيارة أجرة خلافاً لرجاء المعتصمين، قالت "هول طابور خامس. كيف أعرف؟ نعرفهم وهم يرتدون الأسود ويفتعلون أحياناً مشكلات". ثم ابتسمت قائلة "بس بيعملو جو".

وصباح اليوم التالي، قال سائق سيارة "السرفيس" أن الطريق مقطوع على "الرينغ"، سألته عن السبب، فأجاب "في دواعش"، "بس كيف من أين جاؤوا" قلت. تابع كلامه وكأنه لم يسمعني و"في بنات نايمين بالشارع". ونسبة الشابات إلى الشارع محملة بإدانة مضمرة. ولكن "ماذا تفعلن"، سألتُ. قال "عم بيحطو منيكور" (طلاء الأظافر). قلت لنفسي داعشيات "يضعن المنيكور"، وأمسكتُ عن الضحك، وتذكرت "فتاة المناكير" السعودية التي سجلت ملاحقة المطاوعين لها، وذاع الشريط على اليوتيوب. واستنتجت صديقتي ساخرة أن جماعة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" يحسبون أن "المناكير" من "منكر ونكير".

الجمعة 1 تشرين الثاني 2019
"ثورتنا بتضل الأغلى، جينا من الريف والمدينة، جينا لنحيي أهالينا. معا منذ البداية. ونشيل الثورة بإيدينا. وراكم حتى النهاية. يا أحلى ما في دنيايي...". "ويا وطن أنا بحبك... بأمرك يا وطن". "شتي يا دنيي شتي ع هل الدولة المرتة. نحنا الثورة الشعبية وهني الحرب الأهلية. وخي وخي يا خي خلصت الحرب الأهلية. الصوت العالي ما بيموت. والثورة بوسط بيروت". "ع زعيمك بدنا ندوس. اسمع اسمع يا مدسوس".
(يتبع)