بول أشقر لـ"المدن": ما يحصل زلزال حقيقي

عاصم بدر الدين
الأحد   2015/09/13
نسبة هذا الحراك إلى المجتمع المدني أمر لا يبدو واضحاً بالنسبة إلي (محمود الطويل)
بول أشقر، صحافي سابق، وكان من مطلقي حملة "الرئيس الحل"، في العام 1988، وحملة "بلدي بلدتي بلديتي"، في العام 1997، التي أدت إلى انتخابات بلدية في العام 1998. وشارك في اطلاق حملة "تنذكر تَ ما تنعاد" في العام 2000، وحملتي "زورونا" و"40 الحرب"، مؤخراً. وهو أحد الناشطين، من جيل "القدامى"، على ما يعرّف نفسه، في الحراك الحالي. في الآتي أجوبته على أسئلة كانت قد طرحتها "المدن" عليه حول الحراك الأخير وسياقاته.


***

في السنوات السبع الأخيرة شهدنا تحركات مشابهة للحراك اللبناني، في البرتغال، اسبانيا، البرازيل واليونان. وهذه التحركات تتميز بإنطلاقها من أزمة اقتصادية حادة أو فضيحة فساد، وتحصل في مجتمعات مسدودة الأفق و"مخندقة" بين قوتين، وفشلت في حل الأزمات الاقتصادية. وهذا ما يساعد في نقل الاصطفافات من مكان إلى آخر، بعد ان يضيِّع الناس أراءهم الانقسامية أو تخف حدتها، كما لو أنها حالة من "الغباش". لكن هذه التحركات تتميز أيضاً بأنها لا تملك قيادة واحدة، وهي تكتب سيرتها، "التي تطلع وتنزل"، كل يوم.

على أن مآلات هذه التحركات ليست دائماً واحدة. في اسبانيا واليونان، مثلاً، أنتجت هذه التحركات قوة ثالثة، وهذا ما لم يحصل في تجارب أخرى. وما حصل في لبنان، في الأسابيع الأخيرة، هو زلزال حقيقي، وإن كانت الطبقة السياسية لم تدرك ذلك بعد. فهذه هي المرة الأولى التي ينزل فيها الناس إلى الشارع عبر دعوة لا يعرفون مصدرها. وأعتقد، كما أتمنى، أنه سيكون أصغر زلزال مقارنة بما ستشهده المرحلة اللاحقة، اذا استمر الحراك في تصاعديته.


الطبقة السياسية
لكن هذا الزلزال يبدو مفهوماً اذا ما أدركنا ان الطبقة السياسية الموجودة في لبنان نادرة الخصائص، وهي طبقة المحاصصة والفساد، كما يسميها الحراك. فقد بدأت بنهش الدولة اللبنانية خلال الحرب الأهلية من خارجها، وفي مرحلة ما بعد الحرب بدأت بنهشها من داخلها. وقد فقدت هذه الطبقة حواسها، فهي لا ترى ولا تسمع، ولم تقدم ملفاً واحداً يساعد الناس. ولم يبق للناس إلا ما تبقى من هذه الدولة. وهذه احدى اشكاليات الحراك، الذي يفترض به أن يعيد بناء الدولة، وأن يمنع الاستمرار في نهشها، عبر وضع قوانين ربما.


شباب الحراك
الموجودون على الأرض اليوم هم نقيض هذه الطبقة. بعضهم استخلص عبراً من تجربة "اسقاط النظام الطائفي" قبل سنوات، تقوم على حصر الحراك بنقطة واحدة، وهي النفايات اليوم. والحال إن النفايات كانت "عنصراً ثورياً" لم يلتف إليه أحد من قبل. فهي، في أزمتها، أظهرت افلاس الطبقة السياسية، من جهة، وغضب الناس الذين لا يجدون من يستمع اليهم، من جهة أخرى. لكن صدفة حدثية ربطت هذا الاحتجاج بتوقيف أربعة شبان، من بينهم طارق الملاح، بسبب قضية منفصلة تماماً، وهي قضية حقوقية. وهذا ما ربط، أساساً، الحراك بمجال أوسع، وحفز المئات على المشاركة فيه.

ويمكن تصنيف الشبان المشاركين في فئتين عمريتين. الفئة الأولى شبان تحت الـ20 سنة، يحركهم غضب عميق ورغبة بالمحاسبة لا الانتقام. والفئة الثانية هي ما دون الـ30 سنة، الذين يرون أن 30 سنة من حياتهم ضاعت ويريدون أن يعرفوا من تسبب بذلك. هكذا، ظهر غضب فئة شبابية لا يمكنها السفر. ومشكلة النفايات ليست وحدها ما يحركهم، فهناك مشكلات أخرى، قد يكون بعضها شخصياً. وهذا معطى جديد في هذه التحركات، اذ تبدو الأزمة بين الأجيال واضحة. فهؤلاء الشبان يريدون المحاسبة بالمعنى الجذري، وهم يعبرون أيضاً عن غضب أهلهم المكبوت، ويفعلون ما لم يستطع أهلهم فعله، ويقدمون دروساً في الذاكرة والمحاسبة.


المجموعات
نسبة هذا الحراك إلى المجتمع المدني أمر لا يبدو واضحاً بالنسبة إلي. وعدا التباس المفهوم واستخداماته، فإن التحركات التي كان يقوم بها ما يسمى بالمجتمع المدني في لبنان أصغر بما لا يقاس بالحراك الذي يحصل منذ شهر إلى الآن. كما ان جزءاً من المجتمع المدني التقليدي لم يجد بعد وسيلة للالتحاق بهذا الحراك، الذي يبدو كتيار كهربائي تعلق عليه الفئات والقطاعات قضاياها، كما حصل مثلاً مع "التيار النقابي المستقل". وهذا ما يغني الحراك.

وهناك مستويات عدة في الحراك اللبناني، تبدو أقرب إلى الخصوصية. فهناك مستوى الشعار، كما شعار "طلعت ريحتكم"، الذي ربط بين النفايات والسياسة، ولم يعد حكراً على مطلقيه. وهناك مستوى المجموعة، كما مجموعتي "طلعت ريحتكم" و"بدنا نحاسب". وهناك مستوى الحملة، وهو الأوسع، الذي يشمل جميع المبادرات التي تقوم بها المجموعات. وهذا ما تأسس بشكل أوضح منذ تظاهرة 29 آب، ذروة الحراك، اذ صار دور مجموعة "طلعت ريحتكم" مثلاً أقل، لأن الحراك بدأ يذهب في كل الاتجاهات. فالتحرك في مساره يولد كل يوم مجموعة جديدة، وهذا فيه غنى له، لكن التحدي في أن يتمكن أيضاً من توليد مواضيع. ذلك ان احدى تحديات الحراك تمكُّنه من فتح ملفات المحاصصة والفساد.

ومن مميزات الحراك اعتماد مجموعاته على العمل المباشر المفاجئ والآني. لكن هذا ليس كافياً بعد ليتحولوا إلى قوة ثالثة. لكنهم على الأقل تمكنوا من تحقيق بعض الانجازات. مثل اسقاط المحاصصة في ملف النفايات، وجعل الدولة تنهي عقدين، من أصل ثلاثة عقود، مع شركة "سوكلين". وألهموا "خطة الشهيب" من خلال خطة الطوارئ البيئية التي كانوا يقترحونها. كما أن الحراك نفسه ساهم في انعقاد طاولة الحوار. وهذه الانجازات تحتمل الجدل طبعاً.

لكن كثرة المجموعات تفرض، في المقابل، أن لا يحكي أحد بإسم الحراك. فكونه بلا رأس ففي ذلك نقطة قوته، وفي الوقت نفسه نقطة ضعفه. والحراك أقوى من كل القوى السياسية مجتمعة، لكنه أضعف من كل واحدة منها على حدة. ولا يمكن أيضاً أن يقال للحراك أن موضوعاً ما ليس وقته الآن. لكن من المفيد أن يحافظ الحراك على طابع "المحاسبة المواطنية"، وأن لا تغلب فيه "المحاسبة الطبقية اليساروية"، كما حصل أمس في "الزيتونة باي". اذ كان يفترض ان يوجه التحرك أيضاً إلى السان جورج، أقدم التعديات على الأملاك البحرية. واذا كان التحرك أقرب إلى غداء استراحة، على ما قيل لي، فكان يمكن للاستراحة أن تكون بأشكال أخرى.

مكسب هذا الحراك في تحقيقه "الاندساس"، أي أنه أتاح لفئات اجتماعية جديدة المشاركة في التحركات، بالرغم من أزمة نموه الأولى، وركونه إلى الطبقات الوسطى بمعناها العريض، ورفضه لفئات أخرى. وهذا ما أُعتذر عنه لاحقاً، بينما لم يعتذر أحد من قبل من شباب الخندق الغميق مثلاً. لكن "الاندساس" لا يقتصر على الفئات الفقيرة، التي تملك أساساً واضحاً لغضبها، بل يشمل الطبقة الوسطى نفسها، اذ نجح الحراك في اشراك أناس جدد في العمل السياسي والشأن العام.


"المزاج الخارجي".. والتمويل
قرأت تصريحاً للنائب محمد رعد يقول فيه إنه كان يتمنى أن يسمع موقفاً من الحراك حول إسرائيل والجماعات التكفيرية. ما يمكنني أن أؤكده أن أحداً في الحراك ليس مع إسرائيل. لكن الجواب الذي يفرضه مزاج الحراك، في أكثريته، ومن ضمن ملاحظاتي الشخصية، هو تساؤل عن الرابط بين إسرائيل ومحاربة طبقة المحاصصة والفساد. ولا يمكن أن يكون أحد مع الجماعات التكفيرية، لكن هناك أقلية واعية تتساءل أحياناً، ماذا يمكننا أن نفعل لتبقى "داعش" موضوعاً خارجياً، وأن لا تتحول إلى موضوع داخلي بسبب بعض الأخطاء الداخلية؟
في كل الأحوال، اذا اتفق السياسيون على موقف واضح من المحورين، الإيراني والسعودي، فنحن معهم. لكن في الوقت الحالي يفضل أن تنجز الدولة خطة لحل مشكلة النفايات أو الكهرباء، التي يعاني منها الناس.

في العام 1997، كانت هناك حملة "بلدي بلدتي بلديتي"، وقد شككت في حينها وزارة الداخلية في تمويلها. وهي كلفت أقل من 28 ألف دولار، جمعت من المواطنين اللبنانيين. وهذا ما يحصل في الحراك الحالي، الذي ستكون تكلفته أقل بكثير من الميزانيات المرصودة لوجهي العملة اللبنانية، الممولين من السعودية وايران. هل هذا التمويل طبيعي، بينما جمع أموال من المواطنين يعد أمراً غير طبيعي؟ هذه وقاحة.


.. في المناطق
المناطق جزء من الحراك العام. والمشاكل المطروحة في بيروت هي نفسها المطروحة في المناطق، ولكن بحدية أكثر، في النفايات أو الكهرباء وهدر المال العام. لكن الحراك المركزي يستطيع أن يشجع الحراك المناطقي. لكن ما لا يمكن أن يفعله الحراك المركزي هو تسريع أو تأخير أداء المناطق. فهي تنضج حراكها على ايقاعها الخاص. وهناك جدران موجودة في هذه المناطق منذ سنوات طويلة، وايقاع كسرها وادخال الشباب والقطاعات في المناطق في الحراك لا يمكن لأحد أن يحدده.

أمس، شاركت في اعتصام في تل عباس في عكار، دعت إليه مجموعة "عكار منا مزبلة"، وشارك فيه حوالي 500 شخص. وهم كانوا محبطين، اذ توقعوا ان يكون عدد المشاركين أكبر، وكان لافتاً الحضور الواضح لحملة "بدنا نحاسب". ويوم الجمعة الماضي، كان هناك تحرك صغير في ساحة النور، مستقل وعفوي، نظمته "الانتفاضة الشعبية الطرابلسية"، وقد رفض منظموه أن يستغله أحد، ضمن أخلاقيتهم المناطقية. وهناك شباب صغار جاؤوا من القبة حاملين لافتات وسموا أنفسهم "شباب عاطل عن العمل". المشاركون في طرابلس كانوا تحت الـ18 سنة، وكان عددهم حوالي 30 شخصاً. لكن هذا التحرك لا يمثل كل القوة الطرابلسية طبعاً. وقبل يوم من ذلك، نقل نشطاء طرابلسيون 8 أكياس من الزبالة إلى أمام بلدية جونية، وقالوا في بيان إن لا مشكلة لديهم مع سكان جونية، بل مع بلديتها التي تجري صفقات لنقل النفايات إلى طرابلس. والأكياس الثمانية هي على عدد نواب طرابلس. وهذا عمل شجاع.

لكن لا حل في طرابلس الا بالتشبيك بين الأحياء الفقيرة، ثم الانتقال إلى الطبقة الوسطى. عندما يقول الطرابلسيون "كلن يعني كلن" لا يقصدون "حزب الله"، الذي يأخذون منه سلفاً موقفاً سلبياً، إنما يقصدون نجيب ميقاتي وأشرف ريفي والجماعات الاسلامية. وهم يريدون أن يحاسبوا على ما جرى لـ200 شاب من باب التبانة وجبل محسن ماتوا فرق عملة. عندما تنضج هذه العناصر سوف يحصل في طرابلس حراك يفوق بكثير ما حصل في بيروت. لكن هذه المسألة تحتاج إلى ايقاع خاص ووقت.