أريد أن يتوقف ابني عن حب الأقلام

محمد حجيري
الثلاثاء   2014/12/09
"غالباً يردعني سرّ ما عن قول أي شيء وأفضل الصمت والاهتمام بابني"
دائماً كنت أعجز عن الكتابة عن كريم، ابني، وأشعر أن أصابعي مسمّرة، وأقول: ليس سهلاً تحويل أي شيء إلى نص، وليس كل شيء نحبه يمكن أن يصير كلمات، ويزيد عجزي حين أسمع الآخرين يسألونني: كيف كريم؟ لمجرد أنهم يعرفون حالته مع طيف التوحد. لا أعرف إن كنت أشعر بالقلق أم لا، لا أعرف إن كنت أشعر بالاكتئاب أم لا؟ أمر محير بالطبع...

بذلت قصارى جهدي لأتجنب الكتابة، وإبعاد ذهني عن التفكير بهذا الموضوع، ولكن حين رأيت كريم في لحظة، يلوح بيده (باي) لمعلمته في المدرسة، بدا لي أن اصابعه تنشد الكتابة والكلمات. 

في البيت، لا يتعب كريم، ابني، من الذهاب والإياب على رؤوس أصابعه بخفة ورشاقة من غرفة الجلوس المطلة على حرج الزيتون، يجتاز الممر على السجادة الحمراء الطويلة، نحو شرفة الصالون المطلة على البحر، يحمل أقلامه الخشبية الملونة، يرتبها بطريقة متناسقة كأنه يعدّها، يشد عليها بقبضة يديه ويكز على أسنانه، ويقول "ددددا"، "بببي با"... في لحظة ضجر، يفتش عن أشياء جديدة، يفتح جوارير الخزائن يبحث عن أسرار فيها أو كراكيب تلبي مزاجه وتقتل وقته. قد تعجبه الملاعق والشوك أو قد يحمل محفار الكوسا وربما يحلو له أن يمسك قنينة ويلعب بمياه صنبور المغسلة، هو يعرف أنه يقترب من المكان الممنوع ويتصرف على هذا الأساس، ينظر بطرف عينه، يريدني أن انهره عن هذا الفعل، يريد أن يراني ارفع صوتي عليه، اركض وراءه، امازحه، فيعود ادراجه وهو يبتسم ويضحك بصوت عالٍ يبحث عن "شيطنة" اخرى. يقفز قفزات متتالية، يرفرف بأصابعه ويديه، كأنه بلبل صغير في عشه، يزغرد. في بعض المرات، يخرج بعض الأصوات من حركة لسانه، وأحياناً يبعث أصوات فرحه الخاص، والسامع من بعيد قد يظنه يبكي.. ثم يصمت، ثم يرتب الأقلام من جديد، وربما يعود لمتابعة التلفزيون. ليس كل شي يعجبه على الشاشة، فهو يحب بعض الأغاني وبعض برامج الأطفال، يضحك لبرنامج "حديقة المرح" واغاني سبايس تون، ويرفرف بأصابعه للإعلانات السريعة ويقفز للشريط الكلامي، حين ينظر الى الشاشة قد يلغي كل شيء حوله، قد ينسى كل من يناديه، ويركز على ما يحبه.

لا أعرف من أين لكريم القدرة على رصد وجود الاقلام، ما ان يراني أحمل قلماً حتى يلح ويأخذه مني، أو يبكي طويلاً لكي يحصل عليه، ويكون سعيداً بضمه إلى أقلامه، وما إن أحمل كتاباً حتى يأخذه أيضاً، يقلب صفحاته لبعض الوقت يتأمل كلماته كما لو أنه يقرأ. يقولون لي انه يقلدني، فأعجز عن قول أي كلمة.

يحمل كريم قلما ولا يكتب إلا خربشة على الجدران وثيابه، يمسك كتاباً ولا يقرأ، ربما يقرأ بطريقته وعالمه الخاص... لكن حين يحمل الهاتف النقال يبدو أن لديه سرعة بديهية في كشف الخانات التي توضع فيها الصور والفيديوات والموسيقى حيث يسمع ما يريد ويرى ما يمتع نظره.

رنا صديقتي، تقول أن كريم يشبه ابنها في حركاته وابتساماته الدائمة، ولديها قناعة علمية أن المتوحد كثير الحركة أكثر ميلا إلى التطور في المستقبل من المتوحد الخمول.

رنا التي تعرفت إليها من خلال "الفايسبوك"، ولم التق بها حتى الآن، تبدو مهتمة أكثر مني بأخبار ابنها، وتبحث في تفاصيل هذه المشكلة، اذ غالبا ما تخبرنا عن أي جديد يحصل في حياة ابنها، تصوره في يومياته وتسجل حركاته في البيت أو الشارع أو في الحديقة، تعدد الشخصيات الشهيرة التي يقال انها مصابة بالتوحد في العالم، أديسون وفان غوخ واينشتاين ومايكل انجلو وبتهوفن وموزارت ومارك توين وهرمان ملفيل...

تذكر رنا أسماء أدبية كثيرة، ربما تشعر بأمل الخلاص من التوحد وربما التمايز في مجتمع ما زال يحتاج الكثير ليدرك معنى التوحد وناسه.

لا أكترث كثيراً لما يقال عن توحد المشاهير، أنا الذي أمضي وقتا طويلاً استنشق رائحة الكتب، يتبين لي من خلال القراءة أن أحداً من المشاهير لم ينج من مشكلة، أحصي معظم الاسماء الادبية والشعرية والموسيقية والتشكيلية والعلمية التي لديها مشاكلها بين ادمان المخدرات والجنون والاضطراب والفصام والقلق والعقد الأوديبية...

ليست رنا وحدها من يخبرني أن المتوحدين أذكياء لأنهم يركزون على شيء بعينه. كثيرون من الذين أعرفهم، من أصدقائي أو أقربائي، يقولون لي هذا الكلام الذي أحسبه يبعث الملل فيّ، رغم أني لا أبالي كثيراً بأي شيء أسمعه، واتصرف من منطلق ان ابني هو ابني ونقطة على السطر...

يخيل إلي أن أقول للآخرين، لا أريد من ابني أن يكون أينشتاين ولا فان غوخ، أريد أن يتوقف عن التعلق بالأقلام، أريده أن يدخل الحمام بمفرده (وهو فعل ذلك أخيراً)، لكن غالباً يردعني سرّ ما عن قول أي شيء، وأفضل الصمت والاهتمام بابني.