موات الحزبيّة وفوات أحزابها

أحمد جابر
السبت   2023/04/15
بعد أن يكون الحزب رمزاً للخروج على التقليد، تتحول الحزبية الجامدة إلى تقليد آخر(المدن)

تتلازم، في السيرة السياسية العربية واللبنانية، ظاهرة ديمومة الحزبية مع غياب الأحزاب، وتواصل بقاء المؤسسات النظامية وهياكلها، على قيد الوجود، مع دخول دلالات الحيثيات الفكرية، لكل المؤسسة الحزبية، في حالة موت سريري، وفي واقع أمّحَا وجود.

لقد شكل نشوء الأحزاب خطوة متقدمة في النهضة السياسية والفكرية، ومكسباً على صعيد الحريات الفردية والعامة، من حيث القدرة على التعبير، من دون منع أو ملاحقة أو مساءلة تعسفية، ومن حيث تنظيم التعبير ضمن أطر وقوالب "جمعية"، تتكفل آليات تفاعلها مع ذاتها ومع مجتمعها، بنقل "قوة التعبير" إلى قوى اجتماعية طامحة إلى ألوان من التغيير المجتمعي والتداول السياسي، على صعيد البنيان الوطني.

وككل جديد تقدمي، كان الحزب بمثابة إطار فكري سجالي، وتأطير تنظيمي يتحلق حول المضمون الجديد للنص الذي يقيم على مسافة من النصوص التقليدية السائدة، يقطع معها حيث يجب، ويديم الاتصال حيث تدعو الضرورة والفائدة السياسية، ويتجاوزها فكرياً وسياسياً وواقعياً، حيث تتوفر القدرة الكافية لتحقيق هذا التجاوز. تأسيساً على ذلك، يمكن الاستخلاص أن الحزب قام على فكرة الحركة التي تطال بنية التقليد والجمود، ولذلك فان كل ما خالف صفة الحركة، يقرّب الحزب من صورة النقائض السائدة، إذ ما أن يتخلى الحزب عن صفته النقدية، وعن طموحه التغييري، وما إن يعجز عن رفد ما كان له من جديد بإضافات فكرية وعملية متجددة، حتى يصير إلى انتماء متوقف، وإلى تعبيرات قديمة حاجزة، وإلى تقاليد حزبية ماضية مانعة، وأحياناً زاجرة، بشروح تبريرية وافية... لكن واهية ومتهافتة.

في حالة الوقوف تبرز ظاهرة الحزبية أو "التحزب"، الذي يشرح ذاته بنص ذاته، ويبرر حاضره بماضيه، ويخاطب مستقبله بإعلانات وشعارات مستقاة من حقبات أوضاع ماضية. تتكرس الحزبية بجمودها، وتدوم بنشر صفة الجماد على ما يحيط بها، هذا لا يعنى أنها بلا نطق، بل على العكس من ذلك فهي ثرثارة ومهذارة، إذ لا شيء يموّه قلة الوجود الحقيقي سوى كثرة الإدلاء بالنطق اللاحقيقي. ولطالما كان النطق غير حقيقي، لأنه غير عملي، ولا يرتبط بوقائع مادية، ولا يعبر عن حراك قوى اجتماعية، سواء كان هذا الحراك فكرياً ونظرياً، أو في الشارع ضمن أوساط الفئات الاجتماعية المختلفة.

وبعد أن يكون الحزب رمزاً للخروج على التقليد، تتحول الحزبية الجامدة إلى تقليد آخر، وبديلاً من المهمة النقية السائلة، تصير الحزبية حالة تبريرية راكدة وآسنة، أما القول بقولها، فيقترب من الحكاية الإيمانية، التي يدين أصحابها بوحي معتقداتها، دون مخالطة شك أو قبول بتشكيك. الحزبية مذهب "ما ورائي" آخر، يضاف إلى ترسانة الماورائيات، مع كل العدة اللازمة من نصوص مكتوبة، ومن أقوال مأثورة، ومن أحاديث منحولة ضعيفة الإسناد!! وعلى وجه عام، قليلاً ما يلتفت أصحاب الحزبية إلى حقيقة أنهم صاروا بلا أحزاب! لكن أولئك المالكين، ينتبهون جيداً إلى اختيار خطواتهم التعويضية، وهم يبادرون إلى سدّ فراغ الوقائع بصنوج الشعارات ودفوفها.

تختلف الأحوال بين بلاد وأخرى، لكن، ودائماً على وجه عام، تنفرد البلدان "العالمثالثية". والبلدان العربية، ولبنان من بينها، بالقدرة على سدّ الفراغ بالفراغ، وتطمئن إلى أن احتلالها للأماكن المجتمعية والسياسية الخاوية، بكلام الخواء، لن يكون مساءلاً، وأن "عدتها المعرفية" في منأى عن كل نقد فعّال. لو طرح السؤال عن مغزى الشيوعية في دنيا العرب، راهناً، لجاء الجواب من منتصف القرن التاسع عشر، ولربما جاء من محاولات فكرية جنينية سابقة، كذلك لو ارتفع الصوت متسائلاً عن حاضر القومية العربية، لأتى الصدى من سهوب ووديان رابط "اللغة والتاريخ والدين"!! الجواب والصدى، كلاهما صوتان ماضیان جديران بحزبية "ماضوية"، وشاهدان على تقادم أقوالها وأفعالها.

لكن غياب الأجوبة، التي تقارع أصحاب "الأفكار والأيديلوجيات الكبرى" من خارجها، أو خفوت وهامشية هذه الأصوات ليسوا كل الأسباب في بقاء الحزبية العتيقة قيد التداول والاستعمال. لعل من أبرز مقومات استمرارية القديم متحركاً، حاجة ورثة الشعارات الكبرى، لمن يزيّن الواقع المزري الذي آلت إليه هذه الشعارات. هكذا يستمر القديم "جسماً وكلاماً"، إلى جانب الجديد كياناً، المتقادم فكراً وطروحات، وهذا يعني تعايش الذي حاول الخروج من الماضي ففشل، مع ذاك الذي يحاول استنباط الجديد من ماضيه، فكان مآله الفشل أيضاً. تستوي اللوحة إذن، وفي إطارها فشلان، واحد صار أهله "أهل الحلّ والرّبط"، السياسي والاجتماعي، وآخر يقبض أهلَه ثمن تخلّيهم عن "المرجعيّة" التي كانت لهم ذات يوم، أو كانوا على الأقل الأوضح نطقاً باسمها، والأكثر أمانة وصدقاً، مع أنفسهم ومع جمهورهم.

وبعد، أن تكون حزبياً اليوم، فهذا أمر مفهوم، لكن الأهمّ أن تشرح معنى ومغزى الحزب الذي تنتسب إليه، أي أن تقدم بطاقة تعريفك، التي تحددك في مجال الكلمة، والتي ترافقك في ميدان الممارسة... وأن تظل "حزبياتياً"، على معنى التمسك بدوغما حزبية، فهذا أمر يحتاج إلى شرح إضافي يتناول تعليل الصمود في "الجمود"، وتفسير المعارك الأيديولوجية الكبرى، التي ما زالت محتدمة، دونما التفات إلى ما جرى من تبدلات فوق مسارحها العديدة!!

إنكار الحزب كإطار فعل مجتمعي، يشكل في جانب منه، إنكاراً لمقتضيات السياسة والإقامة في الحزبياتية، إلغاء للسياسة، بما هي "نهرٌ لا تسبح فيه مرتين".