لبنان اللبناني: ممنوع أم ممتنع؟

رأي أحمد جابر
السبت   2023/03/11
حتى إشعار غير مرئي، بين المانع والممتنع، يتوالى زمن لبنان السائل الخطير(Getty)

 

لبنان اللبناني، إشكالية بين أهله، وإشكالية في محيطه. أن يكون لبنان لبنانيّاً، أمر معلّق على سارية التاريخ، وحائر بين مساحات سطور السرديّات المتعدّدة، وبين حارات السكّان الذين يعلنون توقهم إلى أن يتشكّلوا كشعب يمكن تعريفه بنصٍّ مقتضب واحد.

لقد ذهب عدد من الذين اهتموا بالتاريخ اللبناني، إلى محاولة استنباط وطنيّة لبنانية تأسيسية، فلم يُكتب لهم الفوز الناجز، ومع هؤلاء، حاول عدد من "المثقفين" استقراء الوقائع والدلالات والنصوص... للخروج بتحديد سِماتي للبناني التاريخي، المستمر في الحاضر، فلم يصيبوا توفيقاً جَماعيّاً، ذلك أن "البلد" ما زال يحمل ثِقَل "الجماعاتية"، الموزّع بنسب متفاوتة، على مجموع الأهليات المحليّة.

لبنان الممتنع:
تقديم العامل الداخلي على العامل الخارجي، يقتضي البدء من نقطة الامتناع اللبناني، وجعلها سابقة على نقطة المنع الخارجي. في الداخل، توكيد على المسؤولية الذاتية عن كل فعلٍ، وفي الخارج مسؤولية البناء على عِلَلِ الداخل، ومسؤولية مفاقمة هذه العلل، واستيلاد أمراض مركّبة جديدة، تضاف إليها.

تاريخ لبنان الملموس، أو الموجود، والمعروف في صورته الراهنة، ليس مجموع الممالك الفينيقية، وليس مساحة نزول الإمبراطوريات المتعاقبة، وليس فقط، لبنان الجبل والإمارة والمتصرفية، وما رافق ذلك من تمدّد جغرافي، تحقق في زمن أمير طموح، أو ما واكب التقلُّص "الكياني"، بعد معارك أهلية مذهبية طاحنة. إذن، تتصل القراءة اللبنانية الحالية بنقض تاريخي للتأريخية اللبنانية، وفي النقض استقامة معاينة، وبوصلة بحث، أو توجيه مفيد صوب الخوض في المتجسّد العياني، بديلاً عن الاستغراق في حال المتخيّل الكياني.

على صعيد توصيفي، ولنقُلْ على صعيد افتراضي، لم يكن لبنان بلد رسالة، كما شاء له بعض الطامحين من أبناء "الحضارة"، وهو لم يكن نقطة التقاء بين شرق روحاني وغرب علماني، لا في مجال الروحانية الأخلاقية، ولا في مجال الحداثة العِلْمية والعلمانية. الواقعي، أي الملموس، أن لبنان كان مسرح تجاذب مصلحي بين شرقٍ وشرق، وبين غربٍ وغرب، وبين شرقٍ وغرب. هذا التجاذب الخارجي، ما زال شديد الوطأة داخليّاً، وواسع النفوذ بين الجماعات، وبسببه، وبدعمٍ منه، تتقلّص مساحات الرسالية والتعايش والتسامح، وتُحاصرُ التفاعليّة الحضاريّة، أو المعولمة، فيصير لبنان، الممتنع داخلياً عن الاندماج، لأسباب تكوينية، بلداً ممتنعاً أو ممنوعاً، من أن يصير على الصورة التي افترضها له رهط من أبنائه، وعلى الصفات التي تداولها جمعٌ غفيرٌ من صانعي سياساته.

لبنان الممنوع:
لبنان الذي امتنع على أن يصير بلداً "لذاته"، تضافرت مصالح وسياسات الخارج على أن تبقيه بلداً "في ذاته". اجتهد المانع القريب، وعمل المانع البعيد، على إدامة الممتنع فوق أرض ثباته "القديم"، واحتفظَ كل مانع بعوامل وعناصر الزحزحة، عندما تفرض السياسات زحزحة، مثلما أمسك، ذات المانع، بعناصر الزلزلة إذا تطلب الأمر هزّ الكيان الذي وُلد من جَمْعِ خلافي، وأقام طويلاً في جمعه الاختلافي.

محطات كثيرة، منتقاة من التاريخ، تقدّم شواهد على استعمال المساحة، التي صارت لبنان، استعمالاً عشوائياً، أي من خلال أساليب لا تضع في حسابها مصالح المقيمين، المباشرة والبعيدة، بل تكتفي "بمكافأة" المحكوم من قبل الحاكم الصامد في وجه غزو، أو الحاكم الظافر القادم من بعيد. من التاريخ غير الموغل في القدم، يمكن ذكر التجربة العثمانية، وسياسات ولاتها، وتحالفات الحاكم اللبناني معها، أو مخاصمته لها. ومن التاريخ القريب، من المفيد ذكر تجربة محمد علي باشا الكبير، والي مصر، ومعه وريثه إبراهيم باشا، أما من التاريخ "الكياني" الذي ما زال مفيداً تذكّر خلاصاته، فهناك تجربة الانتداب الفرنسي، وشريكه الانتداب البريطاني، وصراعهما على النفوذ بعدما آلت إليهما المنطقة، بعد الحرب العالمية الأولى. لم تكن المصلحة اللبنانية حاضرة، إلاّ بمقدار ما كان حضورها ملائماً للمنتدب، لجهة منافسته مع غريمه المنتدب الآخر، أو لجهة مقايضة جزء من أرض نفوذه في لبنان، بجزء من نفوذه في بلدان منتدبة أخرى. حريٌّ القول، إن الصراع كان له قواه اللبنانية، فكان صراعاً محليّاً بينيّاً، بمقدار ما كان صراعاً خارجياً، وكان أرض لقاء بين حسابات المانع الخارجي، والممتنع المحلي، فظلَّ لبنان الوليد، ثم لبنان المستقلّ، مشروعاً معلّقاً على غصن التطورات، أي أنه ظلَّ معلّقاً في عين التبدّلات، التي لم تكن مرفوضة كلها من كل الجمع اللبناني، ولعلَّها كانت موضع قبول ورضى، من أجزاء ذلك الجمع الذي لم تشتد أواصر وطنيّته الداخلية.

لبنان السائل:
يسيلُ لبنان الحالي، من لا منبعٍ إلى لا مصب. هو بلا روافد تنساب إليه فتكون نهراً، لذلك يظلّ البلد غير محدَّد بقوة دفق، وغير محسوب بغزارة مياه، وغير معلوم الوجهة في غياب حوضه المائي الأخير.

الاستعانة بالمشهد السياسي الرئاسي الراهن، تشرح جوانب عديدة من وضع الماء المنساب على غير هُدى، أي على غير جنى، وعلى غير وعدٍ بريّ وفير. هي حالة يندغم فيها الامتناع عن اكتساب بعض الماء شكل النهر، مع تدخل المانع عن حصول هذا الاكتساب.

لكن، كيف يحصل ذلك الآن؟ يتبارى أركان السيولة السياسية في تبادل الرشق بالحججْ التي لا تشبه الحجج، وبالبراهين التي لا تتماثل مع البراهين، وهم ينافحون عن مواقفهم في رفض نسخة رئيس بعينها، أو في قبول نسخة سواها. أركان السيولة إيّاها، على بيِّنة، وعلى دراية، أنّ الذي يسيل من بين أيدي السياديين والمقاومين، ليس اسم الرئيس، ولا مواصفاته، بل الجمهورية التي فقدت الجزء الأكبر من عناصر "جمهوريتها". في هذا المقام لا تجتمع قطرة مع قطرة، لتكون ماء ائتلافٍ سياسي، بل تفترق القطرة عن القطرة، فتنشأ خصومة جفافٍ أهلي، ثم يكون التناقض الحقيقي الذي ينطق أصحاب السيولة بالشيء وضده، من قبيل الحرص والحوار، والخصوصية وعدم الإقصاء، ومحاذرة الكسر الطائفي والإلغاء، إلى آخر نصوص الوطنيّة السيولية، التي يخالفون فحواها، سطراً سطراً، وجملةً جملة.

هي حال الممتنع عن الذهاب بالحوار الائتلافي إلى آخره، وتلك هي حال الممتنع الواقف عند حائط صدّ الخصومة، عاجزاً عن القفز فوق حواجز صدّه.

في الأثناء، ماذا يفعل المانع؟ لا شيء سوى ترداد عبارات سائلة يرفعها إلى مرتبة الحقيقة الصلبة، وسوى الإضافة إلى السيولة المحلية، مما عنده من منوّعات السيولية، التي تتحدث عن الحفاظ على اكتمال مقوّمات "النهر" اللبناني، لكنها تمعن في إلقاء الردم في مجراه، فتعيق تكامل سياق مائه السلسبيل.

حتى إشعار غير مرئي، بين المانع والممتنع، يتوالى زمن لبنان السائل الخطير.