في الانتقال من الديمقراطية البرلمانية إلى اللويا جيرغا الافغانية

رأي عارف العبد
الجمعة   2023/03/10
ابتزاز القوى السياسية الأخرى بهدف إتعابها (علي علوش)

يعتقد حزب الله بعمق ومن دون مواربة، أن التعاطي الفعّال مع النظام السياسي اللبناني الحالي في هذه المرحلة، يقضي بتقويض النظام الحالي وأسسه، من دون تردد. لكن تحت شعار علني إعلامي ترويجي هو احترام الدستور وتطبيق آلياته!

هذا ما عبر عنه بوضوح في مواقفه العملية ووثائقه السياسية. وهو يعتقد أن المجدي في هذه المرحلة، غير الواضح حتى الآن كم ستطول وتبقى، هو العمل على تجميد العمل بآليات النظام الديمقراطي البرلماني من الآن وحتى تطبيق إلغاء الطائفية السياسية، على أن يتم في هذا الوقت اعتماد "الديمقراطية التوافقية" أسلوب عمل وأداة تطبيقية في التعاطي السياسي والمؤسساتي.

والديموقراطية التوافقية كما هو ظاهر حتى الآن عبر التجارب المتكررة، هي تعطيل آليات تطبيق الدستور، وتجميد العمل بمواد كثيرة منه، حتى تحقيق أهداف الحزب، وما يريد الوصول إليه من صيانة مصالحه، وعلى رأسها حفظ سلاحه مصدر قوته الفعلي الآخذ بالنمو والتقدم والتنامي.

لم يخف الحزب هذا التوجه أو هذه الممارسة، بل سعى على الدوام إلى تطبيقها واستخدامها لكن عبر تكتيكات مختلفة.

تحت غطاء تحالف مار مخايل والتزاماته الوجدانية والمصلحية مع الجنرال الأب والقائد المؤسس للجائحة العونية المنطلقة من فيروس "بيع الأوهام في ترويج الأحلام"، تم تجميد أو تعطيل حركة مجلس النواب، وتوقفت جلسات انتخاب الرئيس إلى أن استحقها رئيس تيار المستقبل سعد الحريري الطرف الأقوى آنذاك، على مستوى الجماعة السنّية وسار في ركاب الأمر الواقع، منتخباً العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية تحت شعار أو تسمية "التسوية الرئاسية".

قبل انتخاب عون، وخلال عهد الرئيس ميشال سليمان، استخدم حزب الله وسائل مماثلة للسيطرة والتحكم بالسلطة التنفيذية، عبر إسقاط الحكومات وتشكيلها، تارة عبر تحريك البنادق وأخرى عبر تحريك القمصان السود. لكن كل ذلك تحت شعار احترام الدستور وتطبيقه!

استخدم حزب الله الحزب العوني، بطموحاته المنفوخة وأوهام عظمته النفسية المتضخمة، في الفترة السابقة، في وجه قوى 14 اذار وتيار المستقبل، إلى أن تلاشت القضية التي كانت تشغل باله وتؤرق مزاجه، وهي قضية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي كانت تتابع التحقيق والتدقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

مرر حزب الله أهدافه وحمى حرية حركته باتجاه المشاركة في معارك سوريا والعراق واليمن، عملاً بتوجيهات ومصالح الولي الفقيه. وقد نجح في تمرير كل ذلك خلال المرحلة الماضية، وحقق أهدافه وحمى بندقيته، وأبقى حركتها آمنة ومصانة.

انتهى العهد العوني بنجاحاته الباهرة المنقطعة النظير، وقد جاء الآن أوان عهد جديد ورئيس جديد، كان قد وعده السيد نصرالله بالتراجع عن الرئاسة خطوة، وانتظار دوره الآتي لا محالة.

حين كان الهدف إيصال ميشال عون إلى الرئاسة، وكان الحزب يسيطر على أغلبية نيابية، توقفت جلسات مجلس النواب إلى ان فاز الرئيس المرتجى ونال الحزب أهدافه وما أراد.

نحن الآن، بصدد مرحلة جديدة هي إيصال سليمان فرنجية، مرشحه المفضل في هذه الأوقات، والمتأكد أنه لا يطعن ظهر المقاومة مهما تألبت عليه الظروف. وإذا كانت لعبة تعطيل الجلسات هي التي اعتمدت سابقاً، فإن حرفية "الحزب القائد" انتقلت إلى أساليب جديدة هذه المرة، وهي تكتيك الورقة البيضاء المماثلة والمعادلة لتكتيك تعطيل الجلسات سابقاً. لكن الهدف واحد، وهو إيصال فرنجية إلى الرئاسة بعد إتعاب الجميع.

لم يعرف جبران باسيل حدوده وأين يجب أن يقف ويناور أو يساوم. تناسى باسيل أن الحزب حماه كثيراً في مواجهة ارتفاع أسهم محبيه في أرجاء المعمورة، وأهداه أكثر من مقعد نيابي، والكثير من الفرص الاستثمارية المتفرقة هنا وهناك، إضافة إلى الفرص السياسية التي أهدر أغلبها.

رئيس مجلس النواب نبيه برّي، مايسترو إطلاق الأرانب وخنقها وسلخها، وتحويل جلدها إلى قفازات، وملك اللعبة المسرحية على خشبة ساحة النجمة، والذي أصيب بضربات طائشة ومقصودة كثيرة جراء تهور باسيل، انتظر اللحظة المناسبة بالنسبة إليه لإعلان ترشيحه وتبنيه سليمان فرنجية بطريقة مسرحية مثيرة، خرجت عن النص اللائق برئيس مجلس نواب، يفترض أن يكون على مسافة واحدة من الجميع، ورفعت منسوب التشويق حين وصف المرشح ميشال معوض بالمرشح "الأنبوبي"، ليتبعه السيد نصرالله بعد ساعات، مؤكداً أن رهان برّي في مكانه، وحسابات باسيل لم تكن دقيقة تحت حجة أنه لا يريد الترشح!

عملياً، كان استخدام الورقة البيضاء في الانتخاب، لتعطيل الآلية المنصوص عنها في الدستور. وما جرى ليس إلا وسيلة، الهدف منها ابتزاز القوى السياسية الأخرى بهدف إتعابها وجرها إلى ملعب "الثنائي الوطني"! حسب وصف الرئيس برّي!

الآليات الدستورية تتحدث عن جلسات مفتوحة تنعقد حكماً لانتخاب الرئيس. وهذا ما يحاول أن يصل إليه نقيب المحامين السابق ملحم خلف، وزميلته في الاعتصام في مجلس النواب النائبة التغييرية البريئة من الخبث السياسي، نجاة عون صليبا.

نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، فسر أهداف الحزب بكل وضوح. وهو قال إن الحزب في كل ما قام به ملتزم بتطبيق الدستور، أما الآخرين فهم من يخرق ويتجاوز الدستور، وهدفه الوصول إلى الرئيس المنشود.

الدستور كما هو معلوم، ينص بطبيعة الحال على جلسات انتخابية مفتوحة لانتخاب الرئيس، فيما الشيخ قاسم فسّر الدستور الملتزم به حسب قوله، بالجلوس إلى الطاولة وطرح الأسماء المرشحة للوصول إلى اختيار الأنسب منها.

الأمر هنا بسيط جداً حسب قوله، فبدل الجلسات المفتوحة لانتخاب الرئيس، يتم استخدام ورقة تطيير النصاب، وبدل الاستمرار بعمليات الاقتراع السري لاختيار الرئيس، يقترح الشيخ قاسم آلية جديدة، غير منصوص عنها في الدستور أو معمول بها في الأنظمة الديمقراطية البرلمانية، وهي الجلوس إلى الطاولة واختيار الأنسب من الأسماء عبر الحوار وليس عبر الانتخاب.. و"يا دار ما دخلك شر".

تقويض النظام البرلماني الديمقراطي اللبناني عبر تكتيك التعطيل تارة، عبر الإقفال، ومنع الانعقاد، وطوراً عبر الورقة البيضاء، وضع القوى الأخرى في موقع المحرج والمجبر على الرد.

رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع كان أعلن في بداية النزال الانتخابي أن القوات لن تقاطع، إذا تمكن أي مرشح من تأمين الأصوات اللازمة، بمعنى أنه لن يعطل الانتخاب، حتى لو كان خصمه مرشحاً، لكن الذي جرى أن جعجع، ومع استمرار "الثنائي" أمل وحزب الله في أسلوب الورقة البيضاء المعطلة لانتخاب الرئيس، وجد نفسه محرجاً لنفسه، فأعلن مع أطراف قريبة منه أن التعطيل سيقابل بالتعطيل، وانضم إليه حزب الكتائب ليصل إلى التقاطع مع الجماعة العونية.

كما هو معروف، أن الدم يستسقي الدم، وعملياً في لعبة الانتخابات، فإن التعطيل استسقى التعطيل المقابل. وقد جاء موقف القوات التعطيلي رداً على موقف الثنائي التعطيلي أيضاً. وكانت النتيجة كما هو ظاهر تقويض كامل للنظام الديمقراطي البرلماني الشكلي، والانتقال إلى نظام "اللويا جيرغا" الأفغاني بنسخته اللبنانية المنقحة والمطورة.

كان المرشح سليمان فرنجية واقعي وشجاع، حين أعلن أن جده فاز بمنصب رئيس الجمهورية بنصف أعضاء المجلس زائد واحد في انتخابات 1970، وهو لا يمانع في تكرار ذلك.

لكن المرشح فرنجية لم ينتبه إلى أن جده حين دخل ومناصريه تحت قبة البرلمان في تلك الجلسة الفريدة، لم يكن يعرف أنه سيصبح رئيساً، وأن الأصوات ستكون لمصلحته. من قرر يومها في الأمر آلية ديمقراطية برلمانية اختنقت الآن وابتعدت كثيراً عن ساحة النجمة، ولا أحد يعرف إذا كانت ستعود!