مصير محتمل للبنانيين

يوسف بزي
الثلاثاء   2023/02/21
تنحدر السوريالية اللبنانية إلى سوية التفاهة (Getty)

الذهاب مباشرة إلى مصلحة تسجيل الآليات (النافعة)، هو إما فعل غباء أو عمل شبه انتحاري، كما الحال في أي مهمة تتطلب إنجاز معاملة بدائرة حكومية. المواطن الذي يحترم نفسه، ويتحاشى المهانة، يلجأ عادة إلى مكاتب تخليص المعاملات، مهما كان نوعها.

هكذا دخلت مطمئناً إلى مكتب مجاور لمنزلي، طالباً بكل ثقة تجديد رخصة السواقة. رمقتني السيدة بنظرة تشي أنني بنظرها أحمق كبير. بنصف ابتسامة استهزاء قالت: "أنظر هناك.. هل ترى أكداس الملفات؟ كلها طلبات ومعاملات متراكمة. النافعة مقفلة. أغلبية الموظفين معتقلون، والباقون مُضرِبون أو متوارون هاربون". وإذ أشرح لها مخاوفي إن تورطت بأي حادث سير سأكون مخالفاً للقانون، كما أن شركة التأمين لن تغطي الخسائر طالما أن رخصة السواقة منتهية الصلاحية، تجيبني: اتكل على الله وقُدْ بحذر.

منذ تشرين الثاني الماضي، سلّمت أوراقي العقارية أيضاً لمكتب تخليص المعاملات. كان من المفترض أنها من أسهل المعاملات. دخل الملف إلى المبنى ولم يخرج بعد. اعتُقل معظم الموظفين، أضرب زملاؤهم عن العمل، وتوقف كل شيء.

قبل أكثر من سنة وباللحظة التي انتهت صلاحية جواز سفري، بات تجديده "حلماً"، فعندما اندفع مئات الألوف من اللبنانيين لإصدار أو تجديد جوازاتهم، حوصرت حرفياً المديرية العامة للأمن العام بالطوابير اللانهائية، التي كانت تبدأ بالاصطفاف قبل الفجر أحياناً. ثم أقفلت مراكز الأمن العام بوجه المواطنين، وأنشئت منصة إلكترونية، التي ستمنحني موعداً لإنجاز التجديد متأخراً سنة وثلاثة أشهر. الأزمة المتراكبة من عجز مالي لطباعة الجوازات، إلى تهاوي رواتب الموظفين واختصار دوام العمل إلى يومين أو ثلاثة، مع تقليص المناوبين، إضافة إلى تهافت اللبنانيين وحرصهم على امتلاك جواز سفر.. جعلت "حلمي" عالقاً ومؤجلاً. وها أنا أبدو مغفلاً كلما وصلتني دعوة سفر، فيما من يتلقى اعتذاري يضحك مندهشاً لحالنا السوريالية.

وتنحدر هذه السوريالية إلى سوية التفاهة من نوع فقدان الطوابع الإلزامية في أي معاملة رسمية، أو فقدان المازوت لتشغيل مولد الطاقة، فلا كمبيوتر ولا طابعة ولا ناسخة. بل فقدان القرطاسية والأوراق في معظم الدوائر. أما الغرائبية الكبرى فهي كيفية احتساب أي رسم بالليرة. وحتى احتساب "الرشوة" الضرورية بات صعباً، فما هو المبلغ "اللائق" بالموظف؟

الوسواس الآن، ماذا لو كنت سائراً في الشارع وتعرضت للنشل كما يحدث كثيراً هذه الأيام، وفقدت بطاقة هويتي؟ هل من مجال لإصدار واحدة جديدة؟

على هذا النحو، رحت أفترض أني صرت بلا أوراق ملكية منزلي، بلا رخصة سواقة، بلا جواز سفر، بلا بطاقة هوية.. بمعنى آخر، لم أعد موجوداً. لا شيء يثبت هويتي أو ملكيتي ومكان إقامتي وجنسيتي. وفي هذا الوقت راحت الدوائر الحكومية تغلق نهائياً، ويترك الموظفون وظائفهم إلى الأبد، وتُهجر المكاتب وتقع في الإهمال وتتلف الملفات وتضيع، وتتعرض للسرقة والنهب، وتتعطل الكمبيوترات تماماً وتخرب. وهو أمر يحدث الآن فعلياً.

هكذا، شيئاً فشيئاً أتلاشى، وتتلاشى معي الدولة برمتها، ونصبح موجودين وغير موجودين في آن واحد. حالة شبحية هائمة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.

ثم ذات ليلة، يأتي الزلزال المنتظر ويقوض البناية التي أقطنها، وتذهب كل مقتنياتي هباء منثوراً، وتتدمر كل الدوائر الحكومية بكل ما تحويه من سجلات ومعاملات وملفات، ولا يبقى شيء، ولا حتى دليل واحد يثبت إسمي.

هذا ليس وسواساً. هذا مصيرنا الأكثر احتمالاً.