أيلوليات: حلم بشير وبشارة المقاومة

أحمد جابر
السبت   2022/09/10
توظيف أوهام "مجدٍ" قديم لم يحصل، في طلب "مجد" جديد، سيظل ممتنع الوصول (انترنت)

يحمل أيلول اللبناني الحالي، تناقضاته السياسية الموروثة، فتغيب أيامه المحمولة على حساب الزمانية، ولا تغيب خلافاته المحمولة على البنيوية الكيانية. حال أيلول من أحوال "السنوية" اللبنانية، التي تحفظ تاريخ المناسبات، وتحتفظ بمادة خلافاتها. في هذا السياق، يُسْتَحْضَرُ أيلول العام 1982، مُثْقَلًا بَحَدَثَيْن متناقضين، أوّلُهما، اغتيال رئيس الجمهورية المنتخب، بشير الجميل، وثانيهما، اجتياح قوات الاحتلال الصهيوني العاصمة بيروت، وانطلاق جبهة المقاومة الوطنية، لقتال ودحر هذا الاحتلال. الحدثان حصلا في لبنان، مكانا وزمانا. الحدثان ما زالا لبنانيين، كتباين تَتَجدّدَ فذلكاته، وكافتراق تزداد أسانيده؛ وممّا يفاقم حالتي التباين والافتراق، اندراجهما الآن، في سياق انهيار بَيْنِي عام، يطال كل جوانب "الداخلية" اللبنانية.

بشير الحلم
يطرح أنصار البشيرية اسم صاحبها بَزَخَمٍ اليوم، ويُلِحُّونَ على فرادتها، ويٌجدّدون الإيمان بما كانت تتضمنه من خَلاَصِيَّةٍ صافية، للبنان كان يُرَادُ له أن يستعيد لبنانيته الخالصة... قد يجد البعض العذر لأولئك "الأنصار"، إذا ما ربط الاحتفالية الصاخبة، بموسم انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لكن العذر يبقى مبتورًا، عندما لا يستند إلى جملة مراجعة نقدية "طفيفة"، تقول قولاً مفهومًا ومتوازنًا، في ما كانت عليه حقيقة "البشيرية".

ولنقل ما لا يقوله أصحاب القول البشيري، إن رئاسة بشير الجميل قد قامت على دعائم حرب أهلية لبنانية، حيث كان لكل طرف أهلي مقاتل، كتاب لبنانية خاص يقرأ فيه، ثم يعمل بما فهمه من معاني السطور، وبما لاح له من بين كلماتها. ذلك كان السياق التمهيدي الذي وضع ختامه الغزو الصهيوني، فجعل اسم بشير الجميل، رئيسًا لهذا الختام. إذن، وكخلاصة أولى، كان بشير المقاتل رئيسًا خصمًا، ناصره ودعمه عدوٌ خارجي، ممّا يعني أن "الحلم" كان ورديًّا لدى فريق أهلي، وكان كابوسًا مقلقًا، لدى فريق أهلي آخر.

خلاصة ثانية، يستدعيها الراهن السياسي، هي إن الدعوات إلى سيادية لبنانية جديدة، تتعطّل "جمعنتها"، عندما تضاف إلى البشيرية، لصْقًا، أو اعتباطًا، أو استنهاضًا مؤذيًا وخَطِرًا، لعصبيّة طائفية ضَيّقة.

 ومما يجدر تذكير السياديين البشيريين به، أنّ خصمهم السيادي في الماضي، هو غير خصمهم السيادي الحالي، لذلك، تصير وسائل الصراع الغابر، غير نافعة في صراع الحاضر بشقّيه، السياسي والميداني.

ومما هو حَرِيّ بالتبصُّر السيادي، هو أن لغة النصر المرتبطة بالماضي، لغة خاطئة ومزوّرة، وأن الإصرار على القراءة الانتصارية، يبعث لغة الطرف المناوئ الآخر، الذي كان سياديًا واستقلاليًا وعروبيًا. . . حسب فهمه. انبعاث اللغة الماضية، يعادل انبعاث حالة المخيال العدائي، دفاعيًا، بسبب من المخيال الانتصاري الزائف، الذي يحاول توظيف أوهام "مجدٍ" قديم لم يحصل، في سياق طلب "مجد" جديد، سيظل ممتنع الوصول، في ظلّ ما هو معلوم وملموس، من أحوال التوازنات الداخلية الراهنة.

أمّا الخلاصة الثالثة، أو النصيحة، لمن أراد قولًا وطنيّا عاما، فهي ضرورة مغادرة اللغة السيادية القصوى، وعدم النفخ في تاريخ لا يراه المختلفون سياديًّا، بحسب قارئيه الفئويين، بل إن المختلفين يقولون في هذا التاريخ قول ارتباط بالخارج المعادي، وقول تفريط بالوحدة الكيانية، وقول محاولة بناء فاشيّة لبنانية مستحيلة، بسبب من ذات التعددية البنيوية، وشروطها الكابحة والمعطلة، لكل قفزة ما فوق أحكامها، الميثاقية والتوافقية والخصوصية.

المقاومة البشارة
لقد انطلقت جبهة المقاومة اللبنانية مُتَخَفِّفَةً من أثقال الصراع الداخلي، فحمل نداؤها الأول صرخة إلى كل اللبنانيين، للنهوض إلى قتال العدو الذي احتل بيروت. هكذا تأسَّسَت المقاومة على فِعْلٍ صراعيِّ قريب، عندما تَصَدّت للغزو منفردة، بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى قول سياسيّ صراعيِّ مباشر مع العدوّ الواحد، عندما سلكت سبيل خروجها من سجن الحرب الأهلية الداخلية. حمل وضوح المقاتلين اللبنانيين" الجُدد"، بشارة خروج لبناني متوالٍ، من دوّامة التعريفات الطائفية، ومن أحكام الانقسامات الفئوية، صوب لبنان "واقعي" يُريده الجميع، معروفا في الجغرافيا، ومُعَرَّفًا في التاريخ، بلا إضافات أسطوريّة من داخل الداخل، أو قهريّة من جانب الخارج، ومن يقول قوله في الداخل.

صفاء النشأة المقاومة، لم يُشَوّشْه لاحقًا اصطراع الداخل الذي تجدّد، لكن استمرارها، كوليد لبناني مستقل واعد، تعثّر بعد أن تعاون على قطع حبل صيرورته البشارية، ذاتُ الطائفيين، من أبناء الولاءات الخارجية المتفرقة، فأعيد انتاج الشرذمة التكوينية، حيث البيئة الملائمة لكل قوقعة مذهبية.

مقارنة، لم يَرْتَدْ أبناء المقاومة إلى سِيَرِهِمْ الحزبيّة الماضية، ولم ينكصوا إلى أدبيات تقادمت، ثم ذهبت إلى التاريخ، بل هم بادروا إلى نَقْدِ ما كان لديهم من أوهام التغيير بالقوة، ونقدوا، بقول واضح، ممارستهم التي "حمّلت لبنان فوق ما يحتمل" على ما ذهب إليه محسن إبراهيم، ونقدوا بسلوك واضح، تصنيف الانعزال الذي ألصقوه بفريق من اللبنانيين، فكان لجورج حاوي في هذا الميدان، مبادرات ومحاولات متعددة، دفع ثمنها عمره، فقضى اغتيالًا.

إغراء المقارنة
بين خطاب الحلم البشيري، وبشارة المقاومة، يميل ميزان السعي في ركاب الوطنية الجامعة، في صالح أبناء البشارة...
على صعيد بشيري، لا تبدو أسس الفذلكة ثابتة، بل هي قابلة للاهتزاز لدى مباشرة نقدها. على سبيل الذكر، لم تحمل البشيرية أفق وحدوية لبنانية، وليس توحيدية على غرار توحيد البندقية المسيحية.

استقلالية البشيرية كانت موضع شك، في نشأتها، وفي رئاستها، وفي وجهتها اللاحقة.  تاريخ الصعود البشيري، في مجمله، كان تاريخ تصنيفٍ عدائيّ، ألصق بكل المختلفين، من ذوي الآراء والخلفيات السياسية المتنوعة... كان العدو، في الأدبيات البشيرية داخليًّا، لأن الداخلي لم يكن في نظر الأدبيات سوى تابع لخارج، يريد شرًّا بأهل البلد، وبانسجامهم الذي لا تشوبه شائبة تعكيرية.

على صعيد خطاب "البشارة المقاومة"، كان أساس النشأة صلبًا، لأنه يستهدف الاحتلال، بهذا المعنى لم يختلف حول أداء المقاومة ووجهتها، إلا أولئك الذين وجدوا في العدو نصيرا، والذين طمعوا في تحقيق تغلّب على الداخل، يسنده سلاح العدوان الخارجي. بإيجاز، كانت المقاومة وطنية النشأة، وطنية الوجهة، وطنية الفضاء السياسي العام، وقد حافظت على هذه السمات وهي في الميدان، وما زال أبناؤها يحافظون على إرثهم الذي صنعوه، من أعمار وتعب، حتى أيلول الحالي، فإذا انتقدوا، أو احتجّوا، فإنما يفعلون ذلك في مواجهة من يحاول إقصاءهم من التاريخ، بعد أن أقصاهم من الميدان، وفي مواجهة من يؤرخ لمقاومة لبنانية بدأت في عين الرمانة، لأن هذا تأريخ يضع المقاومين في خانة الأعداء، في الوقت الذي سقطت من قاموس المقاومة كل "العداوات" الداخلية.

لهذا الأيلول
بينما يحافظ التخاطب السياسي على نبرته العالية، سيكون من غير المجدي مطالبة السياديين، والمقاومين الجدد، خفض صوت الداعي والخطيب، كذلك سيكون غير "واقعي" التمني على البشيرية خفض تعداد صفات حلمها، والاكتفاء بهدوء يكون ملموسًا، حتى وهي تشرح سياديا ومقاوماتيا.

في المقابل، سيظلّ مفيداً وضرورياً، مطالبة أبناء بشارة المقاومة برفع صوت مضمون البيان المقاوم الأول، وبرفع رايات مصالح كل الفئات الاجتماعية، وبالصراع ضد الظلامية الشمولية، الدينية والدنيوية، وضد التفاهة الثقافية والإعلامية والسياسية...  هذه من مهام من ينتمي دائماً إلى "الأمام"، ومن واجبات من يريد الانتساب إلى العصر، بشروط العقل والحرية والتطور والمصلحة الوطنية، في وقتٍ مازالت مقاومة من هناك، وأحلام من هنا... تجرُّ الجميع إلى خارج العصر... وخارج التاريخ.