عشية الانتخابات الرئاسية: كيف نستفيد من التجربة الشهابية؟

مروان حرب
الجمعة   2022/08/12
التجربة الشهابية محاولة فريدة وخاصة لتحديث النظام السياسي اللبناني (أرشيف الجيش)
دخل لبنان في سباق الانتخابات الرئاسية. ومع كل استحقاق انتخابي رئاسي تعلو الأصوات المطالِبة برئيس جمهورية يتحلى بالسمات التي ميّزت شخصية الرئيس فؤاد شهاب. وكلما يشهد لبنان أزمة حكم، وتداهمه مخاطر كبرى تهدّده ليس في المجال الاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل في وحدة كيانه أيضًا، يعاد التذكير بالتجربة الشهابية التي تعتبر "نهجاً" أو منهجية حكم اعتمدها شهاب في إدارة الشأن العام بين 1958 و1964.

فشل الشهابية العملي
غالبًا ما يحدث الرجوع إلى التجربة الشهابية من باب تقديمها حلًا سحريًا للأزمات التي يتخبط بها لبنان. واليوم تشهد البلاد محاولات إحداث تغيير في ظل شلل المؤسسات السياسية والإدارية، ودخول السلاح في الصراع السياسي، وتضخم الدين العام، ووضع اقتصادي منهار.

يمكن تقسيم كل تجربة حكم إلى مرحلتين: مرحلة النظرية أو المقاربة السياسية للحكم في ماهيته وهدفه والنتائج التي يسعى إلى تحقيقها. ومرحلة التجربة أو الممارسة، بما تكشفه الممارسة من سوء تقدير وصعوبة تأقلم النظرية مع الواقع الاجتماعي والأيديولوجي، ومع التحولات السياسية الداخلية والجيوسياسية.  

التجربة الشهابية، كمحاولة فريدة وخاصة لتحديث النظام السياسي اللبناني، تمثل المحاولة الأكثر واقعية والتزامًا. فالدولة اللبنانية الراهنة اتخذت شكلها، وبلغت نضجها المؤسساتي مع الشهابية، التي حاولت بناء دولة حديثة بمؤسسات سياسية وإدارية فاعلة. وجوهر الشهابية والعمود الفقري لمنهجية عملها النظري والسياسي، يتمثّلان بإرادة تنظيم جهاز الدولة وتعبئته لإحداث تنمية اقتصادية باعتبارها المكون الأساسي للعدالة الاجتماعية والوعي والوطني، المنتجان لهوية لبنانية وطنية قادرة على تجاوز الانتماءات الطائفية. أما في الممارسة، وبالرغم من النوايا الصادقة، فإن هذه النظرية فشلت. 

الطائفية والتحديث
لكن الشهابية تظل التجربة الوحيدة في تاريخ لبنان، التي يمكن الاستناد إلى مبادئها لبلورة مشروع حكم لبناء دولة. أي لا يمكن للبنان أن يخرج من أزمته ويتقدّم ويتطور كدولة مستقرة وسيّدة، إذا لم يتجاوز فرقته الداخلية التي تمزقه، وفقدان العدالة الاجتماعية في بعدها الجغرافي والشعبي. 

بالتالي، فإن أهمية العودة الى التجربة الشهابية ليست في النقل الحرفي لها، وفي استنساخ فؤاد شهاب آخر كرئيس للجمهورية، لكن في محاولة فهم طبيعة تفاعل النظام السياسي اللبناني مع متطلبات التحديث والتغيير السياسي.

هل خطط التحديث التي اتُّبعتها الشهابية لم تكن ملائمة للبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والطائفية، أم أن النظام السياسي اللبناني غير قادر على استيعاب أي تحديث من شأنه أن يخُل بتوازنه السلبي القائم على الطائفية لمصلحة دينامية تحديثية قد تهدد هذا التوازن؟

الجواب مزدوج. بمعنى أن أي خلل في التوازن الطائفي يعتبر تهديداً جوهرياً لاستمرار وديمومة المجموعات الطائفية في مجتمع تعددي كلبنان. ما يؤدي إلى فشل أي تجربة تسعى إلى انصهار الانتماءات الطائفية ضمن انتماء وطني موحّد. وهذا ما أدى بشكل أساسي إلى فشل التجربة الشهابية في الممارسة.

بالتالي -ونحن على مشارف انتخابات رئاسية وعهد جديد- إذا أردنا استخراج الدروس من الشهابية، فذلك يكون من خلال تدعيم مبادئها، لناحية بناء مؤسسات سياسية قوية وإدارة فاعلة ودولة حديثة، لكن ليس من خلال محاولة الإخلال بتوازن النظام السياسي وصهر الطوائف، بل من خلال الحفاظ على هذا التوازن، عبر كسر احتكارات الطوائف، واتباع مبدأ مداورة جميع المناصب بين الطوائف. وهذا مبدأ معتمد في الكثير من المجتمعات التعددية كلبنان.   

سمات الشهابية
كُتب الكثير عن المرحلة الشهابية. لكن ذلك لم يصل إلى الجمهور الأكبر من اللبنانيين. دليل على ذلك أننا -فيما نواجه هذه الأزمة ونحاول التصدي للواقع الكارثي في زمن الثورة التي انطلقت بمواجهته لإحداث التغيير- لم نجرِ قراءة عميقة لتاريخنا القديم والحديث، بما في ذلك تجربة الرئيس شهاب وجمهوريته الفريدة.

يكتب كريم مروة: لقد أتيح لي أن أتابع، منذ مطالع الخمسينات، سيرة الجنرال فؤاد شهاب عندما كان قائدًا للجيش بعد الاستقلال. وكان قبل ذلك، في أواخر الانتداب، يعمل مع شريكه الجنرال الأحمر جميل لحود على تأسيس الجيش الوطني. وقد اختار الجنرال لحود بعد الاستقلال العمل السياسي نمطًا لنشاطه. وانتخب نائبًا سنة 1964 ثم عُيّن وزيرًا في العام 1966 في حكومة الرئيس عبدالله اليافي في عهد الرئيس شارل حلو، في أعقاب أزمة بنك أنترا. وقد عُيّن باسم جبهة الأحزاب والشخصيات الوطنية التي كان يرأسها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط. وكان الجنرال لحود عضوًا في الجبهة. وكنت أنا وجورج حاوي نمثل الحزب الشيوعي فيها، وكان محسن ابراهيم يمثل حركة القوميين العرب. أما الجنرال فؤاد شهاب فقد بقي في موقعه في الجيش، وعُيّن قائدًا له حتى أواخر العام 1958 الذي انتخب فيه رئيسًا للجمهورية.
أشهدُ أن الرئيس شهاب تميّز في موقعه قائدًا للجيش، بسمات وطنية عبّرت عنها مواقفه التي أذكر منها اثنين: السمة الأولى تتمثل في أنه عندما فُرض على الرئيس بشارة الخوري الاستقالة تحت ضغط الحركة الديموقراطية المعارضة له باسم الجبهة الاشتراكية، طُلب من الجنرال فؤاد شهاب أن يترأس حكومة تشرف على الانتخابات الرئاسية. وفور انتخاب الرئيس كميل شمعون رئيسًا للبلاد استقال شهاب من رئاسة الحكومة ورفض كل الضغوط التي مورست عليه للبقاء على رأسها، معتبرًا أنه كقائد للجيش، لا يقبل أن يكون رئيسًا للحكومة إلا كمهمة موقتة كُلف بها. 

السمة الثانية تتمثل في موقفه بمنع الجيش من التدخل في الثورة التي قامت ضد الرئيس شمعون ربيع العام 1958، بسبب سياساته الداخلية والخارجية. وهي الثورة التي سرعان ما تحولت إلى حربٍ أهلية كان طابعها العام ضد إرادة من أطلقوها طائفية بين المسلمين والمسيحيين. وقد تحوّل الجنرال شهاب في نهاية تلك الحرب الأهلية بقرارٍ داخلي وعربي ودولي إلى المرشح الأول لرئاسة الجمهورية. وكان من أوائل ما تميزت به سياسته حرصه على إعادة اللحمة بين اللبنانيين وإزالة نتائج الحرب الأهلية. وهو ما عبّر عنه من خلال تشكيل أول حكومة في عهده كانت رباعية مشكّلة من: رشيد كرامي، حسين العويني، ريمون إده، وبيار الجميّل. واسندت لريمون إده حقيبة وزارة الداخلية التي استنادًا الى موقعه فيها اتخذ قرارًا بإعدام مهووس من الطائفة السنية كان قد قتل مواطنًا مارونيًا. وقد أُعدم في منطقة البسطة، المكان الذي قتل فيه المواطن الماروني.

وكان من سمات الرئيس شهاب انفتاحه على العالم العربي. فاتفق مع الرئيس جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة، على اللقاء بينهما على الحدود بين لبنان وسوريا، الإقليم الشرقي للجمهورية العربية المتحدة. فجلس كلٌ منهما على مقعد في آخر نقطة من حدود بلده. وهو اللقاء الذي تمّ فيه الاتفاق على علاقة حُسن جوار بين البلدين العربيين الشقيقين. وإضافةً الى ما تقدم، حرص شهاب منذ بداية عهده، على حياد لبنان في أي صراع على الصعيدين العربي والدولي.