لبنان الرسالة: ادّعاء لم يصنع وطناً

أحمد جابر
السبت   2022/07/09
متى كان لبنان؟ متى سيكون؟ (Getty)

ليس معلوماً لدى العموم من ابتكر ادّعاء لبنان الرسالة. والشائع، أن السَوادَ الغالب من اللبنانيين يردّد الجملة من دون الأخذ بجدّيتها، أو في سياق وَهْمٍ ينسب إلى الماضي اللبناني السحيق، مجد حضارةٍ وتجارةٍ وحرفٍ وزركشةِ أرجوان.

أخذ الفنّ الشعبي بـ"الرسالة"، فاستخدمها استخداماً مكثّفاً في الرمزيّة الشعبية، وفي المنبرية الخطابية. شعر الزجل كان سبّاقاً في هذا المجال، فالأسطورة الشائعة، أو الكبرياء المصطنعة، أو التفاخر الهشّ، تفيد سطورها في شحن "الارتجال" الزجلي المنبري، وتفتح له الدرب إلى عاطفة الجمهور.

على منوال الزجل نسج الغناء والشعر والطرب، وفي امتداد السهولة الفنية، المكتوبة والمغنّاة، قامت عمارة "زجلية"، سياسية، توزّع على طوابقها السكّان حضارياً وبدويّاً، وفينيقياً وكنعانياً وفرعونياً، وكان أن اعتنقت الطوائف "الكريمة" مذهبيات سياسية، فحاولت ميثاقاً وعرفاً واستقلالاً، ولم تحاول وطناً ومواطنين، وأقدمت تساكناً وتعايشاً، وأحجمت تداخلاً واندماجاً.. خلاصة الأمر، أن الرسالة كانت بلا وطن، وأن الناطقين بها لم يقيموا على نيّة الوطن، ولا عقدوا العزم على بنائه، بل إن الحقيقي الذي أقام في الدساكر، هو كما قال الدكتور كمال الصليبي "بيت بمنازل كثيرة".

لبنان المصالح
تكفّلت سنوات التاريخ بدحض شعارية لبنان الرسالة. هذا اللبنان لم يكن رسالياً، زمن الإمارة في الجبل اللبناني، ولم يكن في الزمن السابق عليه. امتدّت الحال باللارسالة اللبنانية، فبلغت لبنان الذي شبّ بعد عام 1920، فصار كبيراً، ثم بلغ من "الكِبَرِ عتِيّاً" فلم يحصد غير واقع المصالح الصعبة، هذه التي كُتِبت سطورها بمداد اختلاف اللبنانيين، وصيغت بياناتها من قواميس افتراقهم، وخِيضت صراعاتها في ميادين أعمار الأجيال المتعاقبة، فكانت الحصيلة حتى الراهن، تحطم أبواق الدعاية الرسالية، ورسوخ مصالح النافخين فيها، رسوخاً واقعياً ملموساً، لا تشوبه شُبْهة رسالة، ولا يَعْتَوِره اشتباه وأوهام التاريخ وخيالاته.

إذن، وبالعودة إلى أرض الواقع، يظلّ النقاش المطلوب نقاش مصالح السكّان، هذا بعد إزاحة "الرسالة" إلى الفولكلور العامر بالحماسة، وبعد إزاحة اللياقات والمجاملات الطوائفية والمذهبية، المسكونة بالتكاذب المشترك. بداهةً، سيأخذ النقاش المصلحي بإعادة تعريف المجموعات اللبنانية، وسيعيد نقاش "رؤاها لذواتها"، وسيسلّط الضوء على المرتكزات التاريخية والاجتماعية والثقافية والمعيشية.. لهذه الرؤى. هذا النمط من النقاش الملموس، يشكّل اعترافاً لا مفرّ منه بالتنوّع اللبناني، نعم تنوّع يقول أصحابه به، فلا جدوى بالتالي من تنحيته، أو من القفز فوق معطياته. لنقل إن القولبة القسرية التي تدّعي اندماجاً داخلياً ناجزاً، هي ادّعاء تنفيه الوقائع. ولنقل أيضاً، إن الوحدة من فوق سقطت في البلاد العربية التي أعلنت إنجاز وحدتها. فكان من نتائج الإنكار "التنوعي" ما نراه من تفتّت في سوريا وفي العراق وفي ليبيا واليمن والسودان..إلخ، تفتّت ليس كله من صناعة "المؤامرة" الخارجية، بل هو من صنيع المتقاتلين في الداخل، حتى آخر قطعة من "جبنة" كل نظام.

شعاريات ساقطة
إذا كان الحكم على "لبنان الرسالة" حُكْمَ شعارية واهمة، أي ساقطة من حساب الواقع، فإن شعاريات لبنانية عديدة ساقطة بدورها اليوم، بقوّة الواقع، وبشهادة معطياته. وإذا كانت خلاصة ما رافق "سيرة لبنان" حسابات المصالح المبنيّة على قراءات أهلها، تكون العودة إلى المعاينة المصلحيّة المدققة سلاحاً إضافياً لإسقاط الشعارية المعلنة، والذهاب مباشرة إلى حقيقة مضمراتها.

من مادّة الراهن، لا بأس من انتقائية شعارية تختار الصاخب من الشعارات. ذلك أن هذا الصاخب يلعب دوراً أساسياً في تعكير هدوء عملية إجراءات الحسابات المصلحية. يتأتّى الصخب المشار إليه من ادّعاء تعالي "المطلبية الخاصة"، في الوقت الذي يعوم فيه المتعالون، المذهبيون والطائفيون، على بحر وبحر من التناقش التحاصصي، باسم سيادة منقوصة، أو باسم سيادةٍ تامة، أو باسم مقاومةٍ جاهزة لرد العدوان، أو باسم قوّة منذورة لصدّ المؤامرة، أو بكل الأسماء الوطنية والقومية... التي لا تعني في نهاية المطاف أكثر من رؤية كل فريق داخلي لذاته، ضمن التراتبية العامة، وعلى طاولة توزيع الغنائم، وخلف متراس الذود عن الجماعة، وفي مضمار الاستقواء بالخارج، واستدعائه طلباً لانتصار في الداخل على المنافس الداخلي، حصراً ومن دون وطنية أو سيادية أو مقاومة زائدة عن حدود برنامجها "المقاوم".

من أين البدء
على الطريقة اللبنانية، يكون البدء من كلمة "كن"، تلك التي كان بموجبها لبنان، عندما كان صغيراً، وعندما غدا كبيراً، ويكون البدء من كلمة "كان"، تلك التي لم يكتمل خلالها لبنان الرسالة، ولا أي لبنان آخر، رسالي أو غير رسالي، ويكون البدء من كلمة ماذا سيكون، تلك التي ستكتب لها أسباب الحياة الصعبة، عندما تباشر مسيرتها من الفعل الماضي الناقص، إلى الفعل الحاضر التام. ويبقى السؤال: متى كان لبنان؟ متى سيكون؟ أو متى سيصير لبنان الذي يريده اللبنانيون؟