حقبة تاريخية تُطوى: الموارنة على باب المستحيل

دنيز عطالله
الأربعاء   2022/07/27
هل نشهد انحسار دور جماعة سياسية أم انتهاء حقبة؟ (علي علوش)
ينظر قسم كبير من المسيحيين إلى قضية التحقيق مع المطران موسى الحاج وكأنها فصل جديد من فصول استهدافهم وطيّ "مجدهم" في لبنان الذي لا يتوانون إلى اليوم، عن رواية "أسطورتهم المؤسسة" له، ولدوره، ولأحلامهم فيه وله.

هو "لبنانهم" الذي يتهاوى وتتغيّر ملامحه فيكادون ينكرونه. لكن، ومن دون تقليل أدوار "خصومهم" من قوى وأحزاب سياسية وطوائف، ومن دون تهميش الظروف والسياسات الإقليمية والدولية، ألا يتحمّل المسيحيون، بقواهم السياسية والاقتصادية وحتى الكنسيّة بعضًا من مآل أحوالهم؟

هل لبنان معطىً ثابت؟
صحيح أن لبنان مذكور في الإنجيل نحو سبعين مرة، كما يتفاخر بعضهم للتدليل على عمقه في التاريخ وحصانته في الجغرافيا، إلا أن لبنان الكبير، لبنان الكيان الذي كان للمسيحيين فيه دور تأسيسي وأرجحية على كل المستويات، عمره من سنة 1920. أما عمر استقلاله فمن العام 1943 فقط.
وبالتالي، فإن "موارنة اليوم لا يعرفون أن آباءهم اشتهوا أن ترى عيونهم ما يرونه"، على ما قال البطريرك الراحل نصرالله صفير يومًا. وهو كان يستاء لأن هؤلاء يتعاطون مع لبنان الذي خبروه و"كأنه معطى ثابت غير مهدد بالزوال مهما غامروا أو عاثوا فيه فساداً. وهم يتناسون أنه ثمرة نضال طويل استغرق قرونًا عدة واختلط فيه مرارًا العرق بالدم".

أُعطِيَ الموارنة ما لم يُعطً لطائفة في لبنان. أمسكوا كل السلطات. رئيس الجمهورية بسلطته السياسية ، قائد الجيش بصلاحياته وأجهزته الأمنية، حاكم مصرف لبنان بمهامه المالية والنقدية، وكان لسلطتهم الدينية، أي البطريركية المارونية، مكانتها الخاصة. عزّز ذلك أن رجال الدين المسيحيين، على نقيض المسلمين، لا يتقاضون رواتب من الدولة اللبنانية.

نهاية دور أو حقبة؟
ماذا فعل الموارنة بأنفسهم قبل أن تُسأل الجماعات والطوائف الأخرى، كما الظروف والمتغيّرات، عما فعلته بهم؟
لا حاجة للعودة إلى تراكمات أخطاء وبعض خطايا في الماضي القريب أو الأبعد. نظرة في واقع الحال الراهن تكفي لتضيء على تناسل ازماتهم .

فها هو "الرئيس القوي" ينهي عهده بانهيار شامل وتحلل للدولة غير مسبوق على كل الأصعدة.
قائد الجيش، المعني بـ"احتكار" شرعية السلاح، يحاول إمساك عصا الأمن والسيادة من وسطها كي لا ينفجر البلد.
حاكم مصرف لبنان مطلوب للقضاء المحلي والدولي.
ومن أعطي "مجد لبنان" تساق تهم "العمالة" إلى رعيته.

أما القطاعات التي كان لهم أسبقية ريادتها، جراء الانفتاح على العالم، في التعليم والإستشفاء والثقافة والمصارف وصولًا إلى سلم قيم يحاكي الحداثة، فكلها تكتب فصول انهيارها الأخير.

هذا لا يؤشر فقط إلى انحسار دور جماعة سياسية، إنما هو نهاية حقبة سياسية واجتماعية وثقافية وحتى قيميّة.

"أنتظر من له القرار"
لبنان ذاك وبنوه، يكابرون في الإقرار بأفول زمنهم. لا يعني أن الآتي، غير المبلور بعد، أفضل مما كان أو حُلِم بأن يكون. لكن الإقرار بفشل التجربة قد يكون ممراً إلزاميًا لبدء البحث عن بدائل.
توصيف الواقع يفضي إلى وجوب الاعتراف بأنهم فشلوا في استكمال بناء الدولة التي بشّروا بها ووضعوا الكثير من أسسها، دولة المواطنة والديموقراطية .
وفي هذا السياق، كم يبدو معبّرًا، عشية استحقاق الانتخابات الرئاسية، استذكار، ما لا يزال صالحًا إلى اليوم، وورد في بيان اجتماع المطارنة الموارنة بتاريخ 2 أيلول 1998، وقد جاء فيه "إذا سألت أحد النواب من هو مرشحه أو من سينتخب لهذا "المنصب الكبير"، لاذ بالصمت، إذا لم يقل لك إني أنتظر من له القرار. وهل من دليل أبلغ من هذا الدليل على تعطيل النظام الديمقراطي في لبنان؟".

تتعدد التحليلات والقراءات في أسباب "تعطيل النظام الديموقراطي في لبنان"، وأسباب تراجع الدور المسيحي في الإسهام الفاعل في رسم سياسة لبنان.
يُحكى عن خسارتهم الحرب، عن الطائفية المتجذّرة، عن "رهاب" الأقليات، عن الديموغرافيا القاتلة وعن الهجرة التي استنزفت العقول والطاقات الشابة. قد تكون خساراتهم متنوعة، لكن قلما يجري الكلام عن خسارة منظّريهم ومثقفيهم.

فهل يمكن اليوم، مثلاً، ذكر أسماء لمثقفين كبار يصيغون خطاب أيّ من الأحزاب المسيحية أو ينظّرون لقناعاتها، كي لا نقول أيديولوجياتها وسردياتها، ويرسمون أهدافها؟
هذا ليس تفصيلًا عند جماعة رسمت معظم سرديتها على "فكرة" أسقطتها على لبنان.

"على باب المستحيل"
تغيّرت الظروف وتبدّل العالم، وهواجس المسيحيين السياسية لا تزال عالقة بين تاريخ متنازع على روايته، ومستقبل يحكمه القلق والخوف ونقاش يعلو ويخفت حول هوية البلد وتاثيرهم فيها وتأثرهم بمتغيراتها.

في آذار من سنة 1954 ألقى سعيد عقل محاضرة ضمن سلسلة "مقومات المستقبل اللبناني" في "الندوة اللبنانية" قال فيها: "إنه لثراء في أمة أن يكون لها من الاستقرار القدر الأدنى الكافي فقط، ويكون قسمها الأكبر الباقي في مهب الرياح من العقل: موضوع شكّ حيناً، وأحياناً أملاً ضخماً، توّجس زوال مرّة، ومراراً ضرورة طرقٍ على باب المستحيل".
محزن جداً أن نكتشف أن هذا نصيب بلادنا الوحيد من الثراء.