بكركي وإلغاء "مجد" لبنان

يوسف بزي
الخميس   2022/07/21
فهمت بكركي تماماً "الرسالة" العدوانية التي كُتبت عند معبر الناقورة (Getty)

ليس توقيف راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدسة المارونية، النائب البطريركي المطران موسى الحاج، عند معبر الناقورة، من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية، لأكثر من أحد عشرة ساعة، ومصادرة جواز سفره وما يحمله من مساعدات عينية (أدوية خصوصاً) وتبرعات مالية بمئات ألوف الدولارت.. ليس حدثاً عابراً أو مجرد سوء تصرف أو قرار متهور. إنه أمر عمليات صدر من أعلى رتبة ممكنة.

حين زار البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الأراضي المقدسة في العام 2014، شُنت حملة سياسية ودعائية شعواء ضده، وفق لغة التخوين والاتهامات المعروفة، بلا أي اعتبار لرؤية الكنيسة وللفاتيكان في معنى تلك الزيارة لتجذير حضور المؤمنين المسيحيين الفلسطينيين في أرضهم، وحفظ الهوية الإيمانية والوطنية للأرض والإنسان في فلسطين التاريخية.

أصحاب تلك الحملة، وصفوا فعلة البطريرك بـ"الخطيئة التاريخية"، وإنها تعني "تطبيعاً مع المحتلين". وكان رد الراعي حينها: "لا يحق لأحد أن يقول أقبل أو لا أقبل بالزيارة.. ولا أطلب من أحد أن يقبل". وهو رد يوضح بلا مواربة موقع بكركي ومكانتها وسلطتها التي لا تقبل مطلق وصاية سياسية، لا من احتلال ولا من حزب ولا حتى من دول. وهو ما أكدته البطريركية مساء أمس الأربعاء في بيانها: "إن الذين أوحوا من قعر مناصبهم بالتعرض للمطران الحاج، وخططوا وأمروا ونفذوا عملهم المدان، غاب عنهم أن ما قاموا وما يقومون به لم ولن يؤثرعلى الصرح البطريركي، الذي صمد في وجه ممالك وسلطانات ودول، فزالوا هم وبقيت البطريركية.." (راجع "المدن").

ولغة البيان تُظهر أن بكركي فهمت تماماً "الرسالة" العدوانية التي كُتبت عند معبر الناقورة. إنها ابتداء عملية مديدة لتحطيم واحدة من أكبر مؤسسات ومرجعيات الجمهورية اللبنانية. عملية إخضاع كبرى في صيرورة الاستحواذ على الكيان اللبناني، وإعادة هيكلة اجتماعية واقتصادية وثقافية لبقايا "لبنان الكبير"، الذي نشهد اندثاره قطعة قطعة بلا هوادة.

معاقبة البطريرك الراعي والكنيسة المارونية، منذ الدعوة إلى "الحياد الإيجابي" أو "النشط"، تتحول اليوم مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية إلى مواجهة مفتوحة بالغة الخطورة تستهدف كسر آخر قلاع الاعتراض على مشيئة الحزب الحاكم. وكأن شرط اختيار الرئيس المقبل، هو تحييد بكركي كلياً عن هذا الاستحقاق. وربما أبعد من ذلك، إسكات البطريركية نهائياً كما حال سائر البطريركيات الأخرى في الدول المجاورة.

على مدى ربع قرن تقريباً، كان الحزب الحاكم، وعلى منوال النهج السوري إبان احتلاله للبنان، يعمل بصبر وتصميم (وبنجاح) على تصديع أحزاب وتيارات سياسية، حليفة أو مناوئة، واستلحاق أجنحتها في فلكه، أو إدخالها بالموت السريري كحال تيار المستقبل، أو الحزب الشيوعي. كما عمل ونجح في شق وشرذمة أو استتباع مؤسسات الطوائف من دون استثناء، من المجلس الشيعي الأعلى إلى مشيخة العقل فتجمعات المشايخ الخارجة عن دار الفتوى.. إلخ. وكان هذا دأبه في مؤسسات الدولة وأجهزتها وإداراتها، كذا في المؤسسات المدنية والنقابية والبلدية، عدا عن "طموحاته" المصرفية، وابتداع اقتصاد مواز، وأمن مواز، من غير إغفال أثره في صوغ القرارات المصيرية، والسياسة الخارجية، وحتى في كتابة قانون الانتخاب.. وكيف تتألف الحكومة ومن يسمّي رئيس الجمهورية.

ما حدث في الناقورة هو بداية وحسب. وجرّ البطريركية المارونية إلى المطالبة بتنحية القاضي فادي عقيقي، هو أيضاً جزء من "خبث" الرسالة، عشية ذكرى تفجير مرفأ بيروت، والصراع الضاري قضائياً على هذا الملف، بعملية ابتزاز مكشوف لشعار "استقلالية القضاء" الذي تتمسك به بكركي، فإذ بها تطالب بإقالة قاضٍ! وبالطبع ليست صدفة أن يكون هو نفسه القاضي الذي يتولى ملف "القوات اللبنانية" وأحداث الطيونة وملفات أخرى من النمط نفسه.

ومن المهم الانتباه أيضاً إلى فداحة الضعف والوهن والـ"لا حول ولا قوة" لرئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزارة العدل ووزارة الداخلية وكبار قادة الأجهزة الأمنية إزاء فعلة التوقيف المهين للمطران الحاج، لنفهم إلى أي مدى انزاحت السلطة خارج مؤسساتها الدستورية.

بمعنى مختصر، لقد بدأت "حرب إلغاء" مرجعية بكركي، كي لا يقال بعدها "مجد لبنان أعطي لبكركي".