نزل السرور اللبناني

أحمد جابر
السبت   2022/07/16
"الأمر لي" (المدن)

كتب زياد الرحباني "نزل السرور" باكراً. ربما لم يخطر على باله، أن "النزل" المحدّد بعدد من الجدران، وبعدد من النزلاء، سيتمدد ليصير على مساحة البلد كله. لكن ومهما يكن من أمر الخيال الاستشرافي، أو من أمر "العقل الاستباقي"، فإن ما بات واقعاً ملموساً، هو أن صوت "عبّاس" الثوري، قد تمدّد وتمدّد، وأن المناضل "فهد" قد أنجب وأنجب، فترك في الغابة اللبنانية نسلاً عظيم "الزمجرة"، يمسك بما يلزم من العبوات الناسفة، ويعيّن وحده، ساعة صفر وداع الحياة.

راهن لبنان، عباس يريد ثورة دائمة، من دون أن يكون تروتسكيّاً، وحاضر اللبنانيين، فهد تنفيذي يُؤمَر فيُطيع، وأحوال الجمهور، "زكريا الككلكلي" الذي لا يملك سوى انتشائه بسكرة خمره، لكنه لا يريد ثورة قهرية، ولا انقلاباً قسرياً، مثله مثل سائر النزلاء المغلوبين على أمرهم، الخائفين على أعمارهم، المكتفين بما لديهم من قليل موسيقى، ومن كثير آمال وشراب.

هي عودة إلى الفولكور، نعم، فما يدور على منصّات الأيام اللبنانية قارب الخيال التراثي، لجهة "طرافته"، لكنه افترق عنه، لشدّة وطأته. في السياق، تسقط السياسة، بما هي أمر تدبّر أمور الناس، ويسقط الساسة، بما هم قوّامون على القيام بوظيفة "السائس" الذي يرعى شؤون خيله، ويتابع بدأب وبدراية، أمر الإشراف عليها.

الفولكلور، غير الجميل، صار سيّد المشاهد، ولابسو الأزياء السياسية، أزاحوا جمال الألوان التراثية الزاهية، وعرضوا، ويعرضون، ما لديهم من قبيح الألوان.

من الفولكلور السياسي الزائف، أن يصدر عن الحاكم الرسمي نشيد حماية، ونشيد سيادة، ونشيد دستور، هذا في الوقت الذي يعلم القاصي والداني، أنه يشارك في "كورال" وصاية، وفي كورال تبعية، وفي كورال نشاز يخرج عن انتظام وانسياب كورال الدستور.

من الفولكلور السياسي الزائف، ما يصدر عن المتحكّم الطائفي، والمتحكّم المذهبي، من أُهزوجة صراع، ومن أهزوجة مقارعة للعدو، ومن أهزوجة حصانة لثروات وأعمار اللبنانيين، هذا في الوقت الذي يعلم فيه القريب والبعيد، أن الدندنة الأصلية، بإيقاعها الخافت، أم بإيقاعها العالي، تردّد قول الالتحاق وقول إصدار الأحكام، وقول الإنفراد بالبلاد والعباد، بما يختصرها، أي الدندنة، إلى عبارة: "الأمر لي".

من جهة "قاطع" الفولكلور الزائف المعارض، أو المعترض، أو المحتج، يطلع صوت حقيقي. نبرة الصوت هجومية. دعوة الصوت وثوقية. عدو الصوت، أو أعداؤه، ينادى عليهم بأسمائهم، الصهيونية، والإمبريالية، والرجعية العربية، والرأسمالية المتوحشة، وأعداء الحياة من البورجوازية الكومبرادورية.. هذا الصوت يستحق وصف الحقيقي لأنه ما زال صوتاً ماضياً، أي أنه كان حقيقياً في الماضي، لأنه كان ملموساً، في المكان وفي الزمان، وفي الأصوات، وفي حركات الأيدي وفي ارتفاع القبضات.. لكن، وكما يعلم كل ذي علمٍ اعتراضي، أن هذا الحقيقي فقد حقيقيته في حاضر الأزياء اللبنانية، وما صار إليه، صراخاً حيث يجب أن يكون صمتاً، وخَرَساً حيث يجب أن يكون نُطقاً، وانكفاءً حيث يجب أن يكون إقداماً، وشهادة زور، أو تزوير، أو تلفيق، حيث يجب أن يُدلى بشهادة للحقيقة، وللوضوح، وللصواب.

ضمن دوّامة الفولكلور المتعدّد الرؤوس، المتنوّع المواقع، ماذا يستطيع اللبنانيون في إزاء العروض الرديئة التي تترى على خشبة أيامهم الطويلة؟

قبل الجواب، يجب الاعتراف أن حُكْمَ الرداءة مختلف عليه بين شعوب المشاهدين، إذ كما سلف، فإن القبيح لدى "طائفة"، فائق الجمال لدى "طائفة" ثانية، وما وُصِف بأنه ادعاء لدى فريق، هو الصدق الكامل لدى فريق آخر، وما كان خلاصة سلبية عن أداء إنشادي محدّد، تواجهه خلاصة إيجابية تُنسَب إلى ذات الأداء.

إذن، ينجلي الواقع عن فولكلور ومشاهدين، وعن خلطة آراء وخليط خلاصات. لكن الأمر لا يتوقف هنا، أي لا يكتفي بمستواه الكلامي النظري، بل يتجاوزه إلى مؤداه العملي الواقعي. تقع الشكوى في دائرة المؤدي، ومن مؤداه، في حاضره، وفي ما ينشده في الآتي من الأيام.

على صعيد المعاينة اليوم، يعلم كل متابع، أن الشاكين من مؤدى الفولكلور الذي تشترك فيه كل "الفرق" اللبنانية، يشكّلون قلة نظرية وعملية. ربما كانوا يخاطبون أكثرية صامتة لم تصل بَعدُ إلى صوتها، أو ربما وصلت، لكنها لم تبلغ مستوى الصياح، هذا يعني أن القلّة القليلة، ما زالت مرشحة لأن تظلّ قليلة، طالما أن همسها تائه بين ضجيج الأناشيد، وبين قرع صنوج الحماسة.. لذلك، وبناء على "رقّة حاشية" القلّة، يمكن أن يتقلّص طموح هذه الفئة إلى تعداد ما لا تريده لنفسها، وما لا ترضاه لغيرها، وما لا تستطيع أن تقبله مصيراً لها، واستطراداً ترفضه مصيراً لكل الصامتين.

على سبيل الذكر، والتعداد، ومن دون طول شرح، أو إسهاب في التحليل، مما لا تريده القلّة لنفسها، القتال باسمها، والاستئثار بتعريف كرامتها، وعزّتها، والتصرّف بمواقيت احتمال موتها، وتحديد ميادين سقوطها صرعى دفاعاً عن سياسة لم تكتب حرفاً من حروفها. وما لا ترضاه القلّة لغيرها، جعلها آذاناً للتلقي، وأصواتاً للتأييد، وأجساداً للمنازلة، وأدواتٍ تحمل ما لا تعلم، فتنفِّذ ضد غيرها ما يريده "المبرمجون"، الذين يحتلّون مواقع السيطرة في الحكم، وفي المؤسسات الدينية والدنيوية.

وما لا تستطيع القلّة أن تقبله مصيراً خاصاً وعاماً، هو أن يتمادى المنتج والمخرِج الفولكلوري، في حشر النزلاء اللبنانيين في نَزْل سروره هو، وأن يُصر على قهر وجرجرة اللبنانيين، في "فيلمه الأميركي الطويل"، فيلمه هو، وليس فيلم زياد الرحباني، ففي فيلم المتحكم الخاص تزوير فاضح، واستغباء جلي، ودخان تمويه يغطي على المخرج الذي يخطب ودّ الأميركي في السرّ، ويظهر له الصّد في الجهر.

تريد الأميركي؟ قلّها بوضوح، ورجاءً حدّد الثمن الوظيفي، أو بدل قوة العمل، شرط أن لا تدفع الثمن مجدداً من رصيد الأعمار.. خصوصاً أعمار القلّة التي لا لحن لها في "فيلمك" ولا رغبة حضور.