ما بعد بعد جهنم

عارف العبد
الجمعة   2022/05/27
التجربة مع العهد (وصهره) تقول بانفصاله التام عن حقائق الواقع المؤلم لغالبية اللبنانيين (المدن)

شكّل إنجاز استحقاق الانتخابات النيابية نقطة عبور كبيرة وخطرة، تمكن لبنان من تجاوزها بنجاح، بالرغم من توقعات وتحليلات كثيرة راجت قبل الانتخابات، كانت ترجح عدم حصولها.

السبب الرئيس للنجاح أن القرار بالانتخابات كانت تدفعه وترجحه وتشجع عليه وتحميه أغلب القوى الدولية، في ظل غياب قوى إقليمية تريد أو تستطيع إفشاله إن ارادت. من هنا، فإن الأطراف الداخلية فهمت الموقف المتشكّل حول لبنان بضرورة حصول الانتخابات، وانصرفت للعمل على حفظ الرؤوس والالتزام بضبط سلوكها، والسماح بتمرير هذا الاستحقاق من دون تأخير أو تبديل، بسبب العين الغربية المراقبة، بالترافق مع شهر سيف العقوبات الجاهزة والمتعددة غب الطلب. فالدول الغربية والأوروبية على وجه الخصوص، ترغب الآن بالابتعاد عن احتمال الوصول إلى تدهور كبير في لبنان قد لا يمكنها الإحاطة به أو تحمل نتائجه، بعد كثافة الأزمات العربية المتناسلة ونتائجها، في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، بالتوازي مع التوتر المتصاعد والمقلق في تونس، إضافة إلى الحرب المستجدة والمفتوحة في أوكرانيا، والتي تهز الاستقرار العالمي.

نتائج ثلاث
الانتخابات التي انتهت، حملت على أقل تقدير ثلاث نتائج ظاهرة لم تكن متوقعة:
الأولى، تمثلت بالاختراق الواعد من قبل الممثلين لجمعيات في المجتمع المدني أو ما يصطلح على تسميتهم الآن بالتغييريين، وعددهم يفوق العشرة نواب، كنتيجة للحراك المدني الذي انطلق في 2015 وتبلور في (انتفاضة-ثورة) 17 تشرين 2020، ليتصاعد وينجح الآن في استحداث اختراقات في بعض سواتر وجدران الباطون السياسي في وسط العاصمة، وفتح طرق آمنة مرحلياً إلى ساحة النجمة.

الثانية، اجتثاث واقتلاع الرموز المحسوبة والمقربة من نظام البعث السوري الأسدي من المجلس النيابي. وهذا التطور طرح الكثير من الأسئلة والفرضيات والتفسيرات على بساط البحث، والتي قد لا تمر تفاعلاته بالسهولة المفترضة.

والثالثة، تمثلت بفقدان ما يسمى بفسطاط الثامن من آذار ظاهرياً -وحتى الآن- للأكثرية النيابية داخل المجلس الجديد.

لكن على الرغم من هذه التطورات الجديدة، تصاعدت في الوقت عينه نزر التدهور السياسي المترافق مع تصاعد الانهيار النقدي وبالتالي الاقتصادي، مما يحمل معه احتمالات كبيرة لتدهور اجتماعي سياسي قد يجر إلى تدهور أمني في المستقبل.

عملياً، وكما هو ظاهر حتى الآن، فإن مؤسسات النظام السياسي التي سعت إلى تجديد شبابها عبر الانتخابات، يبدو أنها مقبلة على مرحلة تصلّب لويحي، قد يكون شديداً ولفترة طويلة، لعدة أسباب وباتجاه عدة محاور.

مستنقعات وتماسيح
النتيجة التي خرجت بها الانتخابات النيابية لم تُظهر بشكل حاسم أي أكثرية مريحة أو مسيطرة حتى الآن. صحيح أنها أطاحت بالأغلبية التي كان يمسكها ويديرها حزب الله، وسبق أن احتفل بها قاسم سليماني عام 2018، لكنها في المقابل أوجدت تكتلات أو تجمعات أخرى تبدأ بكتلة الوجوه الجديدة من التغييريين المدنيين، مروراً بكتلة تقول إنها من المستقلين، وكتلة من السياديين تتقدمهم بحماسة ملحوظة القوات اللبنانية، وصولاً إلى الممانعين بزعامة طرف حانق ومسيطر في آن، هو حزب الله.

بمعنى آخر، فإن تركيبة المجلس الحالية أشبه ما يكون بمنخفض يحتوي على مجموعة من برك المياه أو المستنقعات، ترتبط ببعضها بممرات مسطحة وزلقة، تحاول أن تشكل بحيرة هادئة، لكنها قد تتحول بسرعة وسهولة إلى مياه عكرة تسبح فيها التماسيح والحيتان ويختلط فيها الصالح بالطالح.

من الميزات الإيجابية لهذا المجلس أنه يعكس تنوعاً جديداً على الحياة السياسية اللبنانية، وتجربة تحدث للمرة الأولى. لكن خطورتها أنها تعرقل وتصعّب إمكانية الوصول إلى قرار في أي قضية تطرح على بساط البحث.

سيتجاوز المجلس الجديد يوم الثلاثاء المقبل، من دون عناء كبير، عبور الممر الإلزامي والوحيد لانتخاب الرئيس نبيه برّي ونائبه المقبل، ومن ثم توزيع اللجان على القوى والأطراف النيابية. لكن المشكلتين الكبيرتين الآتيتين هما باتجاه إشكالية إعادة تكوين السلطة التنفيذية، أي اختيار رئيس الحكومة، ومن ثم انتخاب رئيس الجمهورية.

الرئيس وصهره
كيف سيتم اختيار رئيس الحكومة المقبل وعلى من سيقع الاختيار؟

أحد أبرز التعديلات الإصلاحية التي جاء بها اتفاق الطائف، يتمثل في أن المشاورات النيابية الملزمة التي يجريها رئيس الجمهورية لتكليف رئيس الحكومة هي الطريق الوحيد لتشكيل أغلبية تصون الرئيس المكلف، باعتبار أنه جاء نتيجة اختيار النواب. وهي الأكثرية التي يفترض أنها تحميه خلال مشوار ومسار تشكيل الحكومة. في مقابل رئيس الجمهورية الذي يجب أن يحترم إرادة هذه الأكثرية ويأخذ خيارها بالحسبان.

التجربة المعاشة حتى الآن، والتي تم اختبارها مع سنوات العهد العوني و"الرئيس القوي"، تقول بانفصال تام عن حقائق الواقع المؤلم لغالبية اللبنانيين، فلا مانع أو رادع أمام أطماع وأطباع رئيس الجمهورية ووريثه الفريد النزعات، من استخدام هذه المفارق المحشورة للوصول إلى الغايات والأهداف المبتغاة والمرسومة لهذه الكوكبة المتحكمة، حتى لو كانت البلاد في وسط جهنم. ففي عرف هؤلاء، التنازل في مثل هذه اللحظات هو انكسار ليس من الجائز أن يحدث، حتى لو أفنى الشعب اللبناني ووصل صراخه سور الصين.

صهر العهد لم يتردد خلال خطابات النصر التي ألقاها مؤخراً بعد الانتخابات من القول بصراحة إن صوتنا غالي وموافقتنا مشروطة!

كانت البلاد لم تدخل بعد في الأتون وبقيت تنتظر توزير جبران باسيل ستة أشهر، وقبل أن نصل إلى ما نحن عليه من سعادة غامرة، جُمدت الانتخابات الرئاسية سنتين ونصف السنة من قبل حزب الله، حتى وصل الرئيس الميمون إلى مقعد الرئاسة الأولى.

ابتزاز متبادل
دخلت البلاد في جهنم، ولم تظهر من الأقوياء في طوائفهم، أي بادرة من الشفقة على حال البلاد والعباد، ولم ترتجف أيديهم من توقيع أوراق الدفع نحو الانتحار الراهن. فكيف الآن، وقد قاربت أيام وساعات العهد على الانتهاء، والصهر العريس الواعد نفسه بوراثة كرسي عمه يقف على باب عروس بعبدا؟

الكلام الذي صدر عن وزير خارجية الأردن، ايمن الصفدي، عن احتمال انزلاق لبنان إلى تدهور كبير "نسعى إلى منعه"، وعن ديفيد هيل وتوقعه شلل المؤسسات السياسية، وكلام غيرهما من متابعين مؤثرين ومراقبين لم يأتِ من فراغ. هم يدركون كما ندرك أن لبنان أمام مرحلة عجز وتبادل ابتزاز، كل فريق سيسعى للحصول حسب اعتقاده، على أكبر كمية من الامتيازات والمكاسب السياسية الوهمية لمصلحته، بغض النظر عن النتائج التي ستكون.

وكل ذلك، في ظل تصاعد الانهيار المالي والعجز والتنازع المتصاعد في قلب جهنم، نحو الأفق المرجح أنه مقبل علينا، وهو الانتقال من وسط جهنم إلى ما بعد بعد جهنم.