بنت جبيل.. أيار 2000

يوسف بزي
الخميس   2022/05/26
مدخل سوق بينت جبيل (Getty)

بعد ظهر 25 أيار عام 2000، أجتاز حطام حاجز بيت ياحون بكتله الاسمنتية الصماء ودبابته المهجورة. يظهر سهل تبنين وقلعتها، الهضاب ساطعة بربيعها. سكان القرى مندلعون على ضفاف الطريق ينثرون الأرزّ، يمدون إلى العابرين أباريق الماء، ليطفئوا عطش الحناجر المبحوحة. النسوة بلا تحفظ في ما يشبه الرقص بأيديهن التي تحلق أبعد من أجسامهن. مناديل وضحكات مبللة بدموع وزغاريد. يرتجف جسدي ويرتعش تحت سماء حارة وصافية.

الجنوب، أقصى الجنوب مفتوح أمامي، مكشوف حتى جبل الشيخ. وكأن هواء محبوساً منذ دهر يهب بلطافة إلهية. أي موكب هذا الذي يطوي عذابات مبتدئة منذ ستينات القرن العشرين، موكب يختتم قوافل موتى انقصفت أعمارهم بحروب واحتلالات واستباحات؟ أو هكذا ظننت يومها، نهاية موت وابتداء حياة. موكب عودة أرض وبشر إلى الالتحام بعد بتر تاريخي لئيم.

أصل إلى "صف الهوا"، مدخل بنت جبيل، خلفي جحافل من السيارات والباصات والأصوات الصارخة المبتهجة التي لا تتوقف. وكنت وحدي بلا راية.

أراهم واقفين بانتظاري. عمّاتي زينب ورسمية وأمينة وعمّي الحاج إحسان وزوجته هدى وزوج عمتي الحاج وجيه، وعلي ابن عمتي، ومحمد وعلي ابنا عمي.

النسوة دوماً هن "وجدان" العالم وشِعره. لم أكن مستعداً ولا متوقعاً لما ستفعله بي أصواتهن وهن ينادين لي لا باسمي بل "يا ابن محمد". مناداة أعادتني غصناً في شجرة، كائناً متصلاً بسلالة، بغموض أجيال سحيقة. بهذه المناداة كن يوصلن مجدداً حبل سرتي اللامرئي برحم أهل ومكان وأجداد، كن ينسّبنني إلى ذرية لانهائية.. إلى وجود وأرومة وأصل. خرافة لا نجاة منها تقبع في نواة الأحشاء.

أقع مستسلماً مهزوماً (في يوم النصر!) في أحضان عماتي. يتشممنني بحرقة طويلة وقبلات متلاحقة وشهقات متصلة بعبارة "يا ابن خيي"، ممطوطة كنداء يعبر ودياناً وبلاداً بعيدة.. حتى نهاية الأرض. أخوهن الغائب الراحل "الشهيد" في مطلع حرب 1975. ينادونه بلوعة حِدادهن الذي لن ينطفأ.

أقبّل أيديهن، أكتافهن، جباههن، منتبهاً لدمعة عمي وهو يمسد رأسي. في أحضانهن تلك الرائحة، رائحتهن السحرية، مزيج مدوّخ يتحول في ذهني إلى صور متلاحقة لرغوة الصابون البلدي وقش المخدات وفرش وألحفة كانت تكوّم بزاوية البيت "الدكة"، ابريق الفخار، خليط من عدس وقمح ولحمة تُدق على بلاطة، كاسة لبن جدّي المقدسة أول العشاء، كاسات الشاي، "بابور الكاز" والبيض المقلي بالسمن والسماق، كيس اللبنة المعلّق فوق مجلى جدتي. روائح أنفاسهن وأثوابهن هي كل هذا. طاهرات مضمخات بحنانٍ أمومي، يجعلهن هكذا محتفظات بخزين لا ينضب من حزن شفيف.

بلا أي سؤال، كنا نعرف أننا سنذهب إلى "الجبانة"، لأقف أمام قبر أبي. 23 عاماً حال الاحتلال دون وقوفي أمام تلك الشاهدة الرخامية، أمام "تربة" أبي الذي ذبحته شظية، شرق بيروت.

كيف لي بغتة أن أتذكر "الفاتحة"، وأنا غير متديّن ولا حافظ للقرآن؟ من أين أتت كلمات الآيات كلها، من أي مخبأ في رأسي؟ ثم هذا التذكر للأب الذي كان منسياً وبالكاد أعرفه، وبالكاد يحضر في يقظتي أو منامي؟ وكان بعيداً تماماً ومنقطعاً عن حياتي بلا أثر، كما هذا الجنوب كله.

أستعيد ملامحه، قسمات وجهه في اللحظة عينها التي تتفتح فيّ ذكريات ما كنت أدرك أنها مطمورة في قلبي لأماكن بنت جبيل، حاراتها وطرقها وساحاتها ودكاكينها وبساتينها، وهوائها الناشف النسيمي البارد. حقل القمح الذي كان يمتد أمام بيت عمي، البركة الكبيرة في نهاية السفح الصغير، مصطبة العجائز لصق الجامع. القطط على سور بستان الرمان، رائحة حطب الصاج والخبز. صنادل التبغ المجدول المعلقة بسقف بيت جدي.

في 25 أيار عام 2000 استعادتني بنت جبيل، وعدت ابنها، لا بموكب ولا براية. طفل وجد بيته وحسب. طفل من روائح وصور.

وهذا هو وطني الذي سأظل أحمله في غربتي التي أحبها.