ننتخب أو لا ننتخب

يوسف بزي
الخميس   2022/03/31
كانت حماستنا بالبداية للانتخابات إيماناً منا أنها لحظة "ديموقراطية" (Getty)

قبل أشهر قليلة وحسب، كان جوابنا حاسماً: سنذهب إلى صناديق الاقتراع.

مع مرور الوقت وابتداء المعمعة الانتخابية، راحت حماستنا تضعف وصارت حيرتنا تكبر. فما تخيلناه سيكون حدثاً فارقاً وتحولاً جديداً، يترجم النقمة والغضب والتمرد، ما عاد قابلاً للتحقق على النحو الذي تمنيناه.

كنا نعرف مسبقاً أن القانون الانتخابي مرسوم بدقة الخبثاء كي يحبس الناخبين في خيارات سيئة، ويضمن النتائج سلفاً، فلا يكون الاقتراع إلا إجراءاً تقنياً لتجديد مجلس "الديموقراطية التوافقية". مع ذلك، كان رهاننا أن ما حدث في أقل من سنوات ثلاث كفيل بزوال امبراطورية على الأقل، وأن المواطنين اللبنانيين باتوا على مسافة سياسة ووعي ومصلحة تخوّلهم الإطاحة بالأمر الواقع عبر أي تصويت أو اقتراع ولو بهكذا قانون مشوّه.

ظننا أن النبذ المتزايد لوجوه أهل السلطة وتياراتهم وأحزابهم، والاعتراض الميداني واليومي لجموع اللبنانيين، والاحتجاجات الفئوية والنقابية والمهنية والعمومية، في سائر قطاعات الحياة المدنية، لا بد أن يُخرِج اللبنانيين من أسار هوياتهم السياسية السابقة ومن أسوار ولاءاتهم الحزبية أو العائلية أو الطائفية. بمعنى آخر، كانت البراهين كثيرة عن نهاية "التدجين". وأن ميولاً انتخابية جديدة لا بد أن يعبّر عنها هؤلاء الذين لا يتوقفون عن الاحتجاج والنقمة.

واعتبرنا أن ما تكشّف من موبقات وارتكابات وجرائم وفضائح ولصوصية وحقارات سياسية، تضاف إلى سمات الوضاعة وصفات الفجور لأصحاب السلطة والنفوذ، كفيلة بانتفاء أي تعاطف أو تأييد متبقّ لهم. وهذا ما سيمنح كلمة "التغيير" قدرة كبيرة على التجسد.

وظنوننا هذه مردّها هو فهمنا للانتخابات على نحو يبدو بالغ الاختلاف عن تلك التي يسير وفقها أغلبية اللبنانيين. فالتعويل على الاقتراع كفعل محاسبة ومساءلة على أداء النائب وانتقاء البرنامج الانتخابي الأصلح للمرشح، والتصويت لخيار سياسي وطني وكياني، بل والنظر إلى كل مرشح بوصفه "نائب الأمة"، هو تعويل ليس في محله تماماً.

بمعنى آخر، ثمة "انتخابات" متخيلة من صنيع ما يسمى المجتمع المدني، ومن تأملات نخب ومثقفين، ومن تطلعات شبابية تزهو بحياتها الحرة بعيداً عن الأهل، وتنجذب إلى أفكار مليئة بالوعود وبما هو أفضل وأرقى. وهذه كلها لا تتصل إطلاقاً بتلك الانتخابات الحقيقية التي تمرّسها الناخبون الفعليون واعتادوها واعتنقوها كعمل سياسي يعيد ويؤكد باستمرار وبلا هوادة الانتماء والهوية والعصبية المتعددة المستويات والطبقات، والتي تبدأ من علاقات الجيرة والقرابة والمصاهرة والعِشرة وروابط العائلة وشبكات المنافع المتبادلة والخدمات المجدولة بكثافة على ترتيبات الوجاهة والتصدّر أو الثروة والحظوة والنفوذ (الزعامة بكل مراتبها)، وتصل إلى الحساسيات المتوارثة حزبياً أو عشائرياً أو مناطقياً أو حتى تلك التي تميّز مثلاً الجزء الأعلى من القرية عن الجزء الأسفل منها، وصولاً بطبيعة الحال إلى الانتماء الطائفي الذي لا يصيبه ضعف، كذلك الفرز المذهبي وما يتضاعف فيه من شطور ملل ونحل.

وتتطلب تلك الانتخابات المتخيلة خيانة كل هذا دفعة واحدة!

لذا، فإن حماستنا بالبداية للانتخابات إيماناً منا أنها لحظة "ديموقراطية" لترجمة إرادة التغيير ومطلب المحاسبة والمعاقبة، ليست أبداً في محلها. وهي حماسة متأتية من تقدير مبالغ به للمدى الذي يستطيعه الفرد اللبناني خروجاً أو تمرداً أو خيانة.

والحق يقال هنا أن المظاهر مخادعة، ولو كانت مذهلة في حجمها ومبهجة في تعبيراتها، على نحو ما رأيناه بلا انقطاع منذ ذاك الخريف الذي صار طيفاً بعيداً. فالموروث العميق والذاكرة الموغلة في تواريخها للجماعات والطوائف، ما زال حيّاً وقوياً ومفعماً بطاقة التجدد والاستمرار على نحو يجعل ثورات كاملة وشاملة أشبه بالزبد الزائل.

ولا بد من الانتباه أيضاً إلى "التغذية الارتجاعية" التي تربط الجماعات والطوائف فيما بينها. فما حدث مثلاً في "المجتمع المسيحي" من قابلية فعلية لمعاقبة أحزابه وتياراته وزعمائه، لم توازيها مجتمعات الطوائف الأخرى في هذا التوجه، ما سبب تلقائياً لجماً ذاتياً وارتداداً إلى التخندق السياسي نفسه. فاعتصام أهل السنّة بحبل حزبهم وزعيمهم حتى بعد اعتكافه وامتناعهم عن أي رغبة تغييرية، واستنفار الشيعة وتخندقهم في صفهم المتراص ومبايعتهم المطلقة لولي أمرهم.. إنما يدفع المسيحيين دفعاً إلى مجاراتهم والتماثل معهم، صوناً لتوازن الرعب وحفظاً لعلاقات الخوف والردع المتبادل. فغريزة البقاء أقوى الغرائز البيولوجية والسياسية.

وبهذا المعنى، أهل السلطة والقوة والأحزاب الرئيسية ليسوا "عباقرة" أو أذكى أو أكثر حنكة من الذين اليوم هم "المعارضة". لكن الأولين يعرفون معنى الانتخابات، فيما نحن -إن حسبنا أنفسنا ضدهم ومعارضيهم- فلم نفقه حرفاً واحداً منها.. للأسف.