السيادة اللبنانية.. توافقية

أحمد جابر
السبت   2022/03/26
لأكثر من سبب، سيعيد "النظام الطائفي" إنتاج نفسه (عباس سلمان)

التصعيد السيادي المتبادل بين أقطاب الطائفية البرلمانية، لا يذرّ الجهل في رؤوس العقلاء السامعين، لكنّه يستدعي من "يجهل فوق جهل الجاهلينا"، من جماهير الانقسام اللبناني.

مفارقة لا تغيب، يُذْعن الناطقون باسم طوائفهم لأحكام الديمقراطية التوافقية، ويحرصون على عدم المسّ بتوازناتها، ثم ينصرفون إلى مقاربة العناوين الداخلية الكبرى، بخطاب يتنافى وأحكام التوافقية التي تحلّ عزيزة منيعة، في ديار كل الناطقين بـ"لبنانية" صافية.
السيادة عنوان أصلي، في معركة الانتخابات النيابية المقبلة. يتبارى أطراف الخلاف في مضمار ادعاء الحرص عليها والتمسّك بها، لغة الحرص، التي ترتدي "جرْسَ" التوافقية، ليست توافقية، بل هي لغة نابذة، وهي نصّ إسقاط واستبعاد وإقصاء.. إذا ما قيست بمقياس "الرابطة الوطنية".

سيادتان
يخوض الفريق السيادي معركة استعادة الدولة، من الدويلة. هذا خطابه. متن الخطاب لا يتجاوز كثيراً العنوان. تتفرع من العنوان الإعلان، عناوين موجزة لا تتعدّى مهام الدولة العادية، بعد استرجاعها من "زنزانة خاطفيها".

التعليق السريع، غير المتسرّع، على خطاب السيادية، يصفه بالاختزال، ويدمغه بعبارات لا واقعية، ويحيله إلى المبالغة المفيدة انتخابياً، لدى جمهور جاهز مسبقاً لاستقبالها، وغير منتج لدى جمهور آخر، جاهز مسبقاً لرفضها. الاستعداد القَبْلي، للقبول والرفض، ينفي عن الكلام هدفه التفاعلي، ويصنّفه خطاباً استنهاضياً استقطابياً عصبويّاً، في مكان، وقولاً استفزازياً، يستدرج الاستقطاب والتجمهر العصبوي، في مكان مقابل.

ما تمّت الإشارة إليه، يقوم بأعبائه جمع من الأحزاب والشخصيات والمرجعيات السياسية، التي تتفاوت طبقات أصواتها السيادية، لكنها تجتمع في أداء نشيد السيادة الواحد.

بالإشارة التعيينية، يحتلّ حزب القوات اللبنانية الصف الأول في "كورس" الإنشاد، انطلاقاً من تقمّصه لدور رأس الحربة في معركة الدفاع عن "الجمهورية"، والمحارب الأول من أجل انتزاع الأكثرية النيابية، الكفيلة بمنع تغيير "وجه وموقع" لبنان.

سيادة ثانية، تخاصم السيادة الأولى، وتنافسها سيادياً. لدى هذه السيادة عنوان الموضوع العام، وعناوينه الفرعية، ولديها خطة العمل والأسلوب، وتتحرك بقواها الذاتية، ومن خلال مروحة واسعة من التحالفات.

يتصدر معركة هذه النسخة السيادية، حزب الله، بثقل موقعه الذي لا ينفيه المراقب، وبقدرته التحالفية التي لا ينكرها الواقع. الدولة عند أبناء هذه السيادة، مخطوفة من قبل قوى خارجية، لذلك يجب استرجاعها إلى أرضها وشعبها، والأصوات الداخلية التي توجّه السهام إلى الأداء السيادي المشار إليه، تشكّل ملاحق للخارج المعتدي على القرار اللبناني السيد المستقل، وعلى خيرات وثروات البلد، الذي يجب أن يكون قويّاً وعزيزاً.
نظرة أولى إلى المداخلة السيادية هذه، كافية لضمّها إلى لائحة المبالغة التي تعتمدها غريمتها الأولى في السيادة، وكافية للقول، إن الحقّ الديمقراطي الذي تتمسّك به النسختان، يتجاوز على التوازن الديمقراطي التوافقي أولاً، لأنه يسقط خصمه السياسي، بالاتهام والاستتباع، وثانياً لأنه يصيب بناء "المشتركات الوطنية" بإصابات خطيرة، عندما يُعمل مبضع التصنيف الولائي اللاوطني، لمن لا يشاركه القول في عناوين الخلافات الداخلية.

حصيلتان
دَفْع السجال السيادي إلى حدوده القصوى، يتنافى وحقيقة العودة إلى طاولة صياغة التوازنات والتفاهمات، بعيد إعلان نتائج المنافسة السياسية الانتخابية. الجلوس إلى طاولات الحوار والنقاش، يبدو محكوماً سلفاً بخَللِ أوزان ستسفر عنه صناديق الاقتراع في شهر أيار المقبل. في هذا السياق، وبناءً على ما هو واضح وملموس حتى الآن، ما المتوقع على صعيد نتائج الخطابين السيادين؟ وما نتائج من يشاركهما نظريتهما الداخلية والخارجية؟

على صعيد السيادية اللبنانية الأولى، قد يقتصر الأمر على زيادة عدد مقاعد القوات اللبنانية، وقد يشمل ذلك من يشاطرها تفسير السيادة، من أحزاب وجهات أخرى، لكن لن تكون الغلبة العددية لهذه السيادة، ولن تكون هذه الأخيرة في موقع نيابي تشريعي، يسمح لها بأخذ المبادرة التقريرية في الموقعين التنفيذيين على مستوى الجمهورية.

أما على صعيد السيادية الثانية، فقد تفضي النتائج إلى زيادة عدد نواب الأكثرية الحالية، هذا على صعيد المجموع، الذي لن يبدّله تراجع عدد نواب التيار الوطني الحر مثلاً.. هذا إن حصل هذا التراجع.

يساعد المشهد الحاضر على استشراف الحصيلة. فالقوات اللبنانية ومن يلاقيها سياسياً، لا تملك قوّة التحول إلى "جماعة" عابرة مناطقياً، في الوقت الذي يملك فيه "حزب الله"، ومن يوافق على قوله، هذا الامتياز المناطقي. هذا من الواقع، ومن الواقع أيضاً، أن ما قدّم الطرح السيادي، القواتي وسواه إلى الجغرافيا العامة، لعب دوراً حاسماً فيه، اغتيال رفيق الحريري، وتموضع الكتلة السنية السياسية الذي تلا هذا الاغتيال. هذا الدور غائب الآن، بقرار من الرئيس سعد الحريري، الذي أفسح غيابه في المجال أمام طموح سيادة حزب الله، إلى توظيف هذا الغياب، والسعي إلى قطف مزيد من ثماره.

أي مشهد؟
سيادتان متنافستان، ستنتجهما العملية الانتخابية. لن يملك فريق "استعادة الدولة" حقّ نقض نتائج العملية الاقتراعية، إذا جاءت معاكسة لطموحاته، فهذا يقع في باب منع قيام الدولة.

كذلك سيملك فريق "الدويلة" حقّ القول إنه الأكثرية التي أنجبتها العملية الديمقراطية الشعبية، وبالتالي، كيف يكون دويلة من أعطته الأكثرية جغرافيا الدولة؟

بناء على النتائج التي لن تشهد تعديلاً جوهرياً على التوازن البرلماني الحالي، ما الأداء اللاحق؟

لأكثر من سبب، سيعيد "النظام الطائفي" إنتاج نفسه، حسب موازين الانتخابات الجديدة، وسيكون على المتنافسين فهم حقيقة أن العالم تحرّك بقوة، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وسيتحرك أكثر، بعد الاتفاق النووي مع إيران، وبعد تنسيق عدد من دول العرب مع إسرائيل. العالم يتغير، ومعه مفهوم السيادة وحدودها. لذلك من المفيد الذهاب إلى القول: إن السيادتين في لبنان، سيادة واحدة، لكن كل طرف يريد تفصيلها على قياس حضوره، وبما يتناسب مع حجم مصادره الوطنية العامة، في الاجتماع وفي السياسة وفي الاقتصاد.

النقاش نقاش مصالح، ونقاش صعود داخلي اجتماعي. وما سوى ذلك: "حديث خرافة يا أم عمرو..".