14 آذار: غياب الحريرية

أحمد جابر
الإثنين   2022/03/14
مشى الأب إلى مصيره، ورحل الإبن باحثاً عن "مصير" (Getty)
يحضر ذِكر الرئيس رفيق الحريري في مناسبتين مندمجتين، مناسبة اغتياله، ومناسبة الرابع عشر من آذار، الفريدة في زخمها، وفي أعداد المحتشدين في ساحاتها. وإذا كان الاغتيال مؤسّساً للانتفاض، فإنه لا بد من القول إن المناسبة ترافقها لغة وطقوس، تبتعد عن مناقشة الموقع السياسي الذي احتله صاحب الذكرى، في المعادلة الوطنية اللبنانية، مثلما تجعل من الصعب تبين ملامح "مشروع الحريرية"، حسب ممارسة صاحبه الأصلي له، ليكون ممكناً، بالتالي، الحديث عن وسائط استكمال هذا المشروع، وعن أساليب استمراره. عليه لا بديل من عودة، بالحدود اللازمة، إلى حضور رفيق الحريري، في اليوميات اللبنانية، وما إنطوت عليه من سماتٍ خاصة، بالمنظار الطوائفي – الوطني، اللبناني، كذلك لا بد من التوقف أمام معنى "إسقاط دور الحريري بالتفجير، خصوصاً في سياق ما حمله الأمر من تداعيات لبنانية لاحقة، لها كل معاني الخطورة، والمصيرية، على "النظام والكيان".

مقدمات حريرية
جاء رفيق الحريري إلى الحكم، بعد مقدمات اشتغال على الحرب الأهلية اللبنانية، ومن ضمن فريق مشترك، عمل محلياً وخارجياً، على الوصول بالحرب المذكورة إلى خواتيمها. يمكن إدراج ذلك تحت مسمى: انضمام الحريري إلى "قوى السلم" التي تسعى إلى الوصول إلى محطة هدوء، تستطيع بعدها، وبالتأسيس عليها، إعادة استئناف دورة الحياة اللبنانية الطبيعية. هكذا يمكن القول، أن رفيق الحريري جاء إلى لبنان "ببطاقة تعريف هادئة"، ومن خارج الانقسام الأهلي، السائد، وبعيداً عن مرابض المدفعية المتراشقة وميادين الاقتتال الأهلي، الذي انفلت، ذات لحظة، من كل الضوابط.

كان اتفاق الطائف، محطة أساسية، صيغ فيها تعديل التوازنات الطائفية اللبنانية، بالانسجام مع ما أفرزته سنوات الحرب الأهلية من وقائع مادية على الأرض.. وفي مقابل الصعود الجديد للشيعية السياسية، كان الصعود الآخر، للسنية السياسية، التي أسلست القياد تباعاً، لزعامة رفيق الحريري، وعرفت معه نسخة من نسخ "تألقها" في المسيرة اللبنانية المعاصرة. عليه، كانت السمة الأخرى "لوعد الحريري"، تكثيف وزن السنية السياسية، والإضافة إلى وزنها، من وزن "الشخص" الذي تحوّل رمزاً "للكثافة"، ومعبّراً عن ثقلها الراسخ.

سرعان ما أعطى "الوضع اللبناني" لرئيس "السلم والوعد"، ثقته، كانت تلك ميزة هامة أضيفت إلى "ظاهرة الحريري". جاء ذلك بعد انتخابات نيابية، قوطعت مسيحياً، أي فقدت، باللغة السائدة اليوم، ميثاقيتها، وخالفت العيش المشترك! مثلما تم الأمر في ظل تدهور اقتصادي، ظن الكثيرون معه، أن وصول رفيق الحريري "المليء مالياً" كفيل بإنقاذهم من انعكاساته. ممارسة الحكم، طيلة العهود الحريرية، شكلت في جوهرها، انضماماً إلى المحصلة العربية العامة، التي رعت بتوازناتها الإقليمية وعلاقاتها الدولية، إنجاز اتفاق الطائف، وعبّرت في الوقت ذاته عن رضى وتكيّف، مع القراءة السورية لتنفيذ الاتفاق المذكور، على الرغم من كل التشوّهات العملية التي أصابت مضمونه التوافقي الأصلي. لقد غطّت "الحريرية"، وفقاً لقراءتها الخاصة، نموذج علاقة لبنان مع سوريا، وبرّرت كل سياسة "التنسيق الكامل" معها، مما سيصير له عنوان الإلحاق والالتحاق والهيمنة لاحقاً. بالتوازي تعايشت الحريرية، وبنوع من المتابعة الحثيثة، مع صعود الشيعية السياسية، وخصوصية دورها المتجدد، والمندفع على رافعة مهمة مقاومة العدو الإسرائيلي، والنجاح لاحقاً في دحره. يمكن القول، بشيء من التحفظ اللازم، أن "الحريرية" تمتعت بميزة الربط مع المشترك اللبناني الداخلي، اقتصاداً وسياسة، وبميزة العلاقة مع "المشترك الخارجي"، ذي الانعكاسات الداخلية، فكان المشترك مع الغرب بمقدار، ومع العرب، وتحديداً سوريا، بمقادير. إذا أردنا توسيع النقطة هذه على نحو لم يَدُرْ في خَلَدْ صاحب "الانضمامين"، الخارجي، والداخلي، لقلنا أن الأمر لامس بعضاً من جوانب الاستقلالية اللبنانية، التي لا يمكن أن تستقيم إلاّ على قاعدة التوازن، بين الداخلي والخارجي، الذي يلعب دوراً "سحرياً" في البنيان اللبناني. مع الميزات هذه وبعد نتائج سنوات الحرب الأهلية، وما أفرزته من تعديلات في بنية الحكم، انتقل بعض من مقاليد "الوزن التأسيسي" اللبناني، إلى أيْدي السنية السياسية، التي تولّت، إلى توسّطها بين أطراف التشكيلة اللبنانية، الجزء الأكبر من حشد الموارد المالية، للميزانية المحلية.

معنى الاغتيال
لقد شكلت لحظة اغتيال رفيق الحريري إسقاطاً للوقائع المادية التي بنت دوره، خصوصاً في الجانب الذي بدا فيه هذا الدور طامحاً إلى القفز من فوق طائفيته، ليلامس صفة "العابر" إلى وطنيته. في هذا المطرح يمكن القول، بما يتجاوز على "مقاصد الحريرية" أيضاً، أن "الدور الوطني"، بما هو مسعى لتوسيع مساحة المشترك بين اللبنانيين، كان ممنوعاً على رفيق الحريري، وعلى من يماثله لاحقاً، ذلك أن كل تَوْسِعَة، ولو ملتبسة، لهذه المساحة، ستكون مفتوحة مستقبلاً على صياغة علاقات أكثر تقدماً بين اللبنانيين، ناظمها شيء من المصالح، وكثير من الهواجس.. ومن المعلوم أن اقتحام لغة المصالح "الجامعة" لقاموس الحسابات الخاصة، ترادف في نهاية المطاف، نسخة من الاستقلال اللبناني ما زالت مرفوضة من "الأقربين"، وعزيزة المنال من أهل البيت، الذين يقيمون في استقلالاتهم المختلفة.

سؤال الذكرى
يُلحُّ علينا في ذكرى الاغتيال، سؤال: أين أصبح ورثة الحريرية، بعد غياب "مؤسسها"؟ الجواب باختصار: لقد توارت تقريباً مجمل السمات التي كانت لصيقة "بالمؤسس" لسبب واقعي أولاً، ولأسباب ذاتية ثانياً.. فعلى صعيد واقعي، أطيح "بالرجل المشروع" فَوُضِعَ بذلك حدٌّ لتراكمات ميدانية وسياسية، لم تكن قد عرفت طريقها إلى التبلور في تيار سياسي، وفي مؤسسات وأطر تنظيمية، تتجاوز التحلق حول "رمزية الرجل"، التي انتقلت لاحقاً إلى الالتفاف حول العائلة ذاتها. وقائعياً أيضاً، حمل الاغتيال تبدلاً في الانحيازات الداخلية والخارجية، أنتج محاور مختلفة في التحالفات والعلاقات. كان من شأن ذلك، أن ينقل الخلاف حول الحكم، والحصص في إدارته وقراراته، من منطقة الخلاف الإسلامي-المسيحي، إلى حيز الخلاف السني- الشيعي، مع الامتدادات الخارجية لهذين المحورين، وما نتج عن الانتماء إليهما من شعارات راوحت بين الاستقلال والتحرر والتحالف مع الأجنبي والارتباط بمخططاته.

من الطبيعي القول، أن تبدل صورة الداخل اللبناني وتحالفاته، لا تدور في معزل عن المداخلات الخارجية، العربية والاقليمية والدولية، مما يزيد في صعوبات الوقائع، وينال من "التجربة الحريرية"، ويجدد الحاجة إلى تسليط الضوء على الجوانب "الوطنية" منها، هذا إذا أريد للتجربة أن تستمر. في هذا الجانب، تقع الأسباب الذاتية، التي لا تزال غير مساعدة، في مضمار استلهام "المضمون" الأهم لممارسة رفيق الحريري. على سبيل التعداد، ومن دون شرح مطول، يمكن القول، أن "الحريرية" باتت مشابهة أكثر "لسنيتها"، حالها حال المذهبيات الأخرى، وأن قدرتها على إقناع الآخرين بدورها "الوسطي" في الاقتصاد والسياسة، تراجعت كثيراً، وأن لا وريث للحريري اليوم يستطيع أن يخاطب اللبنانيين من "مرمى الثلج إلى فقش الموج". وأخيراً، لا خطاب سياسياً حيال الخارج، لدى الورثة، يستطيع حفظ الهامش المطلوب، ولو على صعيد القول، بين ربط الاستقلال بهذا الخارج، وبين بلورة السعي الجدي لانتزاع الاستقلال منه!

للبقاء على جادة الموضوعية، يلزم القول، أن حالة "الحريرية" مماثلة لقريناتها اللبنانيات، لكن اقتصار أمر النقاش عليها، تمليه أحكام الذكرى، التي يذهب إليها كثيرون محملين بالعواطف الجياشة، بينما يتطلب استمرارها في البقاء على قيد الحياة، الوقوف أمامها بالكثير من التحليل والنقاشات، والتقدم "باسم ديمومتها" بكمٍّ من الاقتراحات. خلاف ذلك، سيظل اللبنانيون في مقام الشعارات، التي لن تظل زاهية في كل الأوقات.

رحلة الغياب
حلّ آذار هذا العام، فلم يحمل سوى صورة الاحتشاد الجماهيري الصاخب، في وسط العاصمة بيروت، ومع صمت الصورة، حضر صمت الحريرية، التي كانت نابضة الحضور. مشى الأب إلى مصيره، ورحل الإبن باحثاً عن "مصير". لقد فاز مشروع إسقاط الحريري الأب بصدمة الاغتيال، ثم راكم فوزاً متنامياً خلال عقد ونصف بعد رحيله، ثم قام الوريث سعد الحريري، بإسقاط ما تبقى من الحريرية بالضربة القاضية.

بكلمات، صارع الحريري الأب لكي يكون، فكان. وتراجع الحريري الابن، على دروب "اللايكون"، فكان أن انسحب إلى صيغة كان.

كثيرة هي القضايا التي تحضر في ذكرى الغياب الأول، وفي لحظة الغياب الثاني، لكن الخلاصة الثابتة ستبقى وباختصار: من أراد كسْرَ السنيّة السياسية، من خلال استهداف رفيق الحريري وصل إلى النقطة الأعلى من مراده، عندما غادر سعد الحريري الميدان، والمواجهة قد بلغت ذروة احتدامها. من يُسأل عن هكذا خيار؟ من المسؤول عن ترحيل الحريرية؟