صعود دول الخليج

يوسف بزي
الخميس   2022/11/24
مونديال 2022 إعلان صريح بالنجاح الخليجي (Getty)

ليس صدفة إطلاقاً الفوز "التاريخي" لمنتخب السعودية على المنتخب الأرجنتيني، في مباراة رسمية ضمن بطولة كأس العالم. الرياضة في العصر الحديث هي الوجه الآخر للسياسة بمعناها الواسع. قياس نجاحات الدول والمجتمعات وخطط التنمية كان يحدث في المناسبات الرياضية الكبرى. الاتحاد السوفياتي كان يمنح اهتماماً للميداليات الذهبية الأولمبية بالمقدار نفسه الذي يمنحه للتسلح أو لغزو الفضاء، ضمن صراعه الأيديولوجي مع الغرب.

التصميم القطري على الظفر باستضافة مونديال 2022، كان هدفاً استراتيجياً للدولة التي استطاعت خلال عقدين تقريباً حجز مكانة بارزة على خريطة العالم.

الرياضة، وكرة القدم خصوصاً، هي الآن مرآة العالم في مسارات التنمية والنجاحات الاقتصادية وتقدم المجتمعات والدول. الفوز السعودي عنى "انتصاراً سياسياً" أيضاً، كما لو أنه –رمزياً وفعلياً- قطف ثمار ما بذلته الدولة في كل تأهيل وتطوير وبناء وتعليم وتدريب ورعاية.

بهذا المعنى كذلك، تتوّج استضافة دولة قطر لبطولة كأس العالم بكرة القدم (المونديال)، سلسلة طويلة من المشاريع الكبرى والمتلاحقة التي "تتسابق" دول الخليج على إنجازها. سخاء مقرون بخطط وأفكار ورؤى وطموحات "عملاقة" دوماً. ما يحدث منذ ثلاثة عقود وحتى اليوم من بناء القدرات والتوسع العمراني والمؤسساتي والاستثمارات الهائلة في تشييد المدن، وتأسيس الاقتصادات القوية وتوفير الرفاهية للسكان، وتحويل البلاد إلى مركز جذب للأعمال والتجارة وحتى لإنتاج الفنون.. إنما يحدث بوتيرة تحبس الأنفاس، خصوصاً في قطر ودولة الإمارات المتحدة والمملكة العربية السعودية.

الطموحات التي تحملها دول الخليج تنصب كلها على هندسة مستقبل بقفزات عملاقة وبسرعات قياسية، وباندفاعات لاهثة تلاحق الزمن. فما يُنجز هنا في سنوات قليلة، يوازي إنجازات قرن في بلد آخر. ومن يزور إحدى مدن الخليج قبل سنة قد لا يتعرف عليها تماماً اليوم، لكثرة ما يستجد ويُشيّد في أشهر قليلة.

الثروات التريليونية تنفق هنا على تحويل الصحراء إلى حواضر ما بعد حداثية، فائقة التطور الهندسي والتكنولوجي. مغامرة كبرى ما عاد ينفع معها كثيراً الإنكار الدارج منذ السبعينات ضد النموذج الخليجي.

صحيح أنه نموذج يحتمل النقد، السياسي والثقافي، لكن أيضاً حان وقت الاعتراف بتهافت الكثير من المنطلقات النقدية المتخمة بالشوفينية أو النعرات الدينية أو العرقية، خصوصاً حين يصدر عن مجتمعات وبيئات ودول تعتاش على فتات "المساعدات" الخليجية، وتشهد خراباً وفشلاً عميقاً، وفاقدة لأي بصيص أمل بمستقبل أفضل.

الخليج اليوم ما عاد يشبه خليج الأمس. دوله التي نجت من امتحانين كبيرين، غزو الكويت عام 1990، و"غزوة نيويورك" 2001، مستوعبة الصدمتين على نحو مؤثر وعميق قيمياً وثقافياً وسياسياً، هي اليوم على مسافة بعيدة من التصورات (الكليشيه) التي كانت رائجة. المجتمعات الخليجية اليوم أكثر انفتاحاً وتسامحاً وإقراراً بالتنوع والتعدد بما لا يقاس عما كانت عليه قبل ثلاثة عقود، وعلى نحو أفضل بكثير من مجتمعات تغنت بهذه الفضائل طويلاً، وها هي غارقة في التناحر الطائفي والمذهبي وكل أشكال التعصب.

أبعد من ذلك، أن نرى اليوم تبني دول الخليج لاكتشافات أثرية تعود إلى ما قبل الإسلام، وإظهارها بعد طمس مديد، والتباهي بها وبما تحمله من إعادة نظر في التاريخ والثقافة، هو أمر بالغ التأثير في صوغ الهويات الوطنية وسردياتها ومحمولاتها الثقافية. ليس عبثاً مثلاً الاحتفالات الفنية والسياحية والترفيهية التي تقيمها السعودية تحت عنوان "مهرجان الممالك القديمة". إنه تبدل "إيديولوجي" شديد الحساسية.

هناك الكثير من القضايا التي ستظل مطروحة وستشكل تحديات للنموذج الخليجي، اقتصادياً وثقافياً وبيئياً وسياسياً.. وحقوقياً. وسيبقى مساراً شاقاً وصعباً. لكن في كل الأحوال –وحتى الآن- يبدو أن "الاستجابة" لهذه التحديات تأخذ وجهتها الصحيحة.

المشهد المونديالي في الدوحة، في الشوارع والحدائق، وفي المدرجات طبعاً، ما كان ممكناً تخيله قبل ثلاثة عقود. ينطبق هذا على دبي بالتأكيد وأبو ظبي وجدة. ملايين السياح في مدن "عجائبية" بفخامتها وثرائها وحداثتها. مدن لديها مطارات بسعة عشرات الملايين، تستقطب الاستثمارات والأعمال والكفاءات البشرية وآخر الأفكار الطموحة والريادية والمناسبات العالمية الكبرى، لتكون مراكز جديدة لطفرات العولمة، وأرضاً للفرص والازدهار.

نقد النموذج الخليجي يسري على نقد ما تطرحه العولمة الرأسمالية بصيغتها السائدة التي لا ترحم، وتقوض أنماط عيش وتفكير وعمران، وتعمم تلك الاستهلاكية المفرطة. لكن من غير المجدي أن يكون نقداً نابعاً من بكاء على أطلال. وهو الغالب عندنا.

حان الوقت للإقرار أن "الاقتراح" الذي قدمه المشرق العربي (وربما أيضاً المصري)، أي النموذج النابع من عصر النهضة ومن مشروع محمد علي الكبير، انتهت صلاحيته التاريخية على نحو مأسوي خصوصاً في المشرق العربي، الذي بات مساحة خراب وانحطاط.

فعلى الضد مما نشهده من صعود دول الخليج، استنفد المشرق العربي رأس ماله الثقافي والمادي والبشري والاجتماعي والمؤسسي والبيئي بسرعة، وعلى نحو بات يتعذر إصلاحه.

بالخلاصة، إذا كان مونديال 2002 مناسبة للاحتفال بتفوق شرق آسيا والنموذج الباهر لليابان وكوريا الجنوبية، ومونديال 2010 بجنوب إفريقيا مناسبة كبرى لنهاية تاريخ العنصرية، فإن مونديال 2022 إعلان صريح بالنجاح الخليجي وابتداء عصر آخر في شبه الجزيرة العربية.