النزعة الإنعزالية.. بانتظار النيزك

يوسف بزي
الخميس   2022/01/06
العزلة تحولت إلى بيان سياسي (Getty)

العزلة والمزيد من العزلة. ينحو كل واحد منا إلى الانسحاب نحو قوقعته الشخصية، وإلى تجنب الخروج والاختلاط قدر الإمكان، وتحصين نفسه من المؤثرات الخارجية، والابتعاد عن أي صخب اجتماعي لا لزوم له. وإذا أمكن، تقليص المناسبات العائلية، اللقاءات، الزيارات.. والأهم، إلغاء تلك العادات التي تأخذنا إلى الفضاءات العامة: المطاعم والمقاهي ودور السينما وصالات العرض والأماكن التي يمكن أن يحتشد فيها الناس، بما في ذلك الأعراس أو المآتم.

وإذا كان هذا ابتدأ مع جائحة كورونا، وما فرضته من حجر منزلي إجباري، إلا أنه سرعان ما بات خياراً طوعياً، وأسلوب حياة. لا تخوفاً من عدوى ومرض بل أبعد من ذلك بكثير: استقالة من كل عمومية، وتقهقر نحو الصمت.

خلال العامين الماضيين، حدث اعتناق تدريجي وتبنٍّ للقيود التي فرضها الوباء. الاعتصام المنزلي، والركون إلى العيش خلف الأبواب المغلقة، والاحتماء بجدران البيت. وإذا أمكن، الخروج التام من المدينة نحو بيت ريفي هادئ ومنعزل. الوباء تحول إلى حجة غياب، وذريعة لبقة للاختباء ونبذ الآخرين. فالعزلة أصبحت بياناً سياسياً لا سلوكاً صحياً.

الظاهرة هذه نراها حتى في ما يسمى "وسائل التواصل الاجتماعي". فقبل سنوات، كان الواحد منا بالكاد يغادر صفحة الفايسبوك لأكثر من خمس دقائق. الكتابة فيها والتعليق والنشر و"التلييك" أشبه بحمى أصابت الجميع. كنا تويتريين وفايسبوكيين على نحو جنوني.. اندفاع محموم نحو المشاركة والقول والتعبير والحضور وشبك العلاقات والتواصل ليلاً ونهاراً. كان هذا الميدان الافتراضي قرين ساحات الثورات والانتفاضات، حيث الرغبة العارمة بالتأثر والتأثير والانخراط بالحشود المليونية. وكأننا على موعد تاريخي لتغيير كل شيء، مقبلين على عالم جديد مليء بالوعود.

ما حدث أن ذلك كله تلاشى تقريباً. الكرنفال انتهى بتراجيديا تامة. خيبة بحجم قرن كامل من الزمن. هناك الآن نفور تام من فايسبوك وتويتر، لزوم ما لا يلزم. الواتساب بوصفه وسيلة اتصال وظيفية وحيوية صار هو الأكثر استخداماً، إنه يساعد على ضرورات العزلة أكثر مما يساهم بالتواصل الاجتماعي. إنه أكثر خصوصية.

لذا، هناك صمت في فايسبوك وتويتر. التفاعل فيهما أقل بما لا يقاس عما كان عليه الحال قبل سنتين أو ثلاث. منسوب التفاهة والترهات والابتذال هو الأعلى. وأيضاً هيمنة الندب والشكوى وتعابير القرف والاستنكار ولغة النعي.. صفحات جنائزية وبكائية، تؤكد أكثر منحى التشاؤم والانعزال.

أتذكر الشاعر الراحل بسام حجار، الذي أمضى معظم حياته لا يغادر منزله إلا بمشوار وحيد نحو دوامه الوظيفي. لا يدخل دكاناً، لا يتسوق، لا يذهب إلى أي مكان. من البيت إلى المكتب فعودة مباشرة. بالكاد يتحدث مع أحد. عاش عمراً هانئاً وسعيداً خالياً من "الحياة الاجتماعية"، متمتعاً بالقراءة والكتابة والترجمة ومشاهدة قناة خاصة بعروض الأزياء.. والصمت الوجودي. كان مؤمناً وعلى نحو مبكر بالخطر والأذى الذي يسببه التورط في "الشأن العام". كان يحمي كيانه من تأثيرات الخارج. وكان شاعر الجدران الأربعة بامتياز.

كنا نرى بسام حجار حالة شديدة الاستثنائية، غريبة جداً، وغير محتملة بالنسبة لنا. لكننا اليوم "نتمرن" فعلياً على أن نكون مثله، أن نحيا هكذا في حيز شديد الصغر، نحميه بالعزلة، ونخترع انشغالات تقاوم الملل، لنعيش وحدة غير موحشة.

لا يتعلق الأمر بتاتاً بكورونا، بل هو أقرب إلى الحال التي كانت سائدة وراء الستار الحديدي، في بلدان أوروبا الشرقية الشيوعية، حين كان الصمت هو الحكمة. الخوف هو السلطة. اليأس هو الخبز اليومي. المهانة الوطنية هي الحقيقة الثابتة.

ما أصابنا، وفق عبارة الكاتب ميلان كونديرا، هو "التوقّع الرمزي العصابي لفعل ذاتي عظيم، لم ولن يقع". توقَّعنا تلك المعجزة في انتفاضة 2005، ثم في ثورات الربيع العربي، ثم في خريف 2019. فشل إثر فشل. هذا يفوق احتمال أي جيل أو مجتمع أو أمة.  

اليوم، المحو العلني للبنان يتم بلا أي اعتراض فعلي. من كان يتخيل أن يموت هذا البلد بهذه السهولة؟ سوريا باتت تحت الركام. لا يمكننا تعداد كل مصائب منطقتنا وشعوبنا ومجتمعاتنا ومآسينا الشخصية. لكن يمكن ملاحظة اختفاء الضحك مثلاً، وفق ما لاحظ أيضاً كونديرا في كلامه عن العيش في ظل الستالينية، وعن "السلوك الغنائي في الحياة" واختفاء المرح الذي ينتمي إلى متعة الحياة.

الاهتمام الاستثنائي بفيلم "لا تنظر إلى الأعلى" مرجعه الأول إننا أيضاً ننتظر النيزك كي ينهي كل هذه المهزلة. نزعة انتحارية ساخرة.

وفي هذا الانتظار العبثي، نحن هنا في العزلة الأخيرة، بلا تشاؤم ولا تفاؤل.. فقط كي نتوهم أننا نترك الهزيمة وحيدة في عراء الخارج.