لبنان وإيران: شراكة الداخل مع هيمنة الخارج

أحمد جابر
الأحد   2022/01/16
الخارج الإيراني بات الخطر الوحيد كما جاء في بيان رفع الاحتلال عن لبنان (علي علّوش)
لافِتٌ إنشاء "المجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني"، ولافِتٌ أيضاً إعلان برنامج من بندٍ وحيد: رفع هذا الاحتلال. الشعار عام، ولا تنتقص من عموميته مداخلة أقطابه حول تطبيق بنود الطائف، والاحتكام إلى الدستور، واحترام الشرعيتين العربية والدولية، والتأكيد على تطبيق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
لأوّل وَهْلَة كان ممكناً استبدال الشعار العام باشتقاق شعار من التفاصيل، التي هي أعمّ وأشمل، إذا ما أُخِذَتْ على قياس الوضع اللبناني، وإذا ما أُدْرِجتْ في سياق الطموح إلى سجال سياسي داخلي مفتوح، ذي أفق، وذي حسابات سياسية واقعية. هو عدم توفيق سياسي، ما قاله المجلس الوطني الوليد، وهو ابتعادٌ "مُصطلحي"، عن مقاربة واقع الحال، والأمران يتيحان التزحزح عنهما، لو لم توضع "عربة الشعار" أمام حصان المبادرة السياسية. الأقرب إلى واقع اليوميات اللبنانية، أنه واقع مُهَيمَنٌ عليه، لذلك فالذهاب إلى معالجة موضوع الهيمنة، بما هي تداخل علاقات ومصالح، بين الخارج الإيراني، والداخل اللبناني، يبقى الأجدى. والتدقيق في "بُنية" هذا التداخل، يعيد الاعتبار إلى حقيقة مسؤولية الخارج بشموليته، فهو أكثر من خارج أوحد، كما يعيد التصويب على مسؤولية الداخل، الذي يتشكل من دواخل لبنانية، ولا يقتصر على "عنصر" مذهبي بعينه، هو العنصر الشيعي السياسي، المقصود حَصْراً، بعد أن صار الخارج الإيراني خطراً وحيداً على السياق اللبناني، حسب منطوق بيان "رفع الاحتلال عن لبنان".

احتلال أم هيمنة؟
من شروحات كلمة الهيمنة، أنها القدرة المطلقة على الشيء، من كافة جوانبه، وبشتّى الوسائل، لتحقيق الغاية السياسية. وفي امتداد ذلك، تندرج قدرة دولة على دولة، من خلال تحكّم الدولة القوية بتوجيه قرارات السياسة والاقتصاد صوب مصالحها، في الدولة التي تُهَيمِن عليها.

ومن تفسير كلمة الاحتلال، الاستيلاء على الأرض، والإخضاع ووضْع اليد، بالغزو والقهر. فمن يحتلّ المكان، ينزِلُ به، ويستولي عليه بقهر إرادة سكانه.

والحال، فما هو الأقرب إلى الوضع اللبناني في ضوء "اللغة" ومدلولاتها السياسية؟ واضح. من القراءة، أنّ لبنان اليوم لا يخضع لاحتلال عسكري، بل هو في قلب معادلة هيمنة داخلية، يحوز فيها "الشيعي السياسي" المدعوم خارجياً، قصَب التحكّم الأوسع، من دون أن يكون "السائق" الوحيد، الذي يقود العربة اللبنانية، ذات العجلات المتعدّدة، وذات الأحصنة الكثيرة.

السؤال الذي يفرض ضرورته، هل يقود واقع القول إلى إعلان هيمنة حزبية مذهبية فردية، على المشهد السياسي اللبناني؟ أم أن الوقائع، أي المعطيات اللبنانية، تقود إلى التدقيق في حقيقة "هيمنة اجتماعية" أهلية؟ لم يحصل، على امتداد السيرة اللبنانية، أن انفردت "أهلية" بعينها، بالهيمنة، ولم يحصل، أن انفرد خارج ما، دولي أو إقليمي أو عربي، بالتأسيس على هيمنة داخلية منفردة. ما هو في حوزة التاريخ اللبناني، ومنذ تأطيره في كيان جغرافي سياسي معلوم، أن كل محاولات الانفراد، الداخلية – الخارجية، قد فشلت، وأن الممرّ إلى إفشالها، كان في معظم الحالات، مرصوفاً بحجارة النزاعات الأهلية.

شراكة الهيمنة
تتشكل التوليفة اللبنانية، الحاكمة والمتحكّمة، من شركاء أهليين متعددي الانتماء، طائفياً ومذهبياً واجتماعياً. تهيمن هذه التوليفة على تسيير الخيارات الرسمية، من دون عسر، لكنها تقف على باب خليط توليفة غير مؤتلفة، تواجه التحكّم المكشوف، بكثير من الرفض، وبأساليب من المواجهة، التي تتوسل من جهة أصحابها، اليسر والعسر، حسب اللحظة المحدّدة، وحسب خلاصة قراءة المصالح المتحركة، في كل حين.

في ترجمة ذلك لبنانياً، حزب الله طرف في توليفة "القيادة"، ومعه طرفٌ آخر من جنسه، أي حركة أمل، التي كانت حركة محرومين صدرية. الإشارة إلى طرفي الشيعية السياسية، لا تحصر التوليفة بهما، بل تدفع إلى السؤال عن الأطراف الآخرين، إذن، من هم هؤلاء الآخرون؟ الجواب المعلوم، أن هؤلاء هم تيارات وأحزاب وشخصيات، عقدوا اتفاق مصلحة مع الثنائي الشيعي، وفي طليعته حزب الله، وأبرموا تفاهماً ثنائياً وثلاثياً ورباعياً... خارج عقد الاتفاق العام. هكذا تقدّم التوليفة الرسمية ذاتها، بصفتها ائتلاف متشابهين غير متشابهين، واجتماع متوافقين غير متفقين، ومجموعة متضامنين ملتفّين حول استقرار "شراكتهم"، إذا ما لاح شبح تهديد لاستقرارهم، من خارج أصول إدارة تفاهماتهم. عليه، في التوليفة الكل ضامن، والكل متضامن، والكل مضمون، وفي هذا السياق يحتلّ حزب الله، مع دعمه الخارجي، موقع "المهيمن"، أي على معنى "السيطرة والحفاظ" على ما هو مُهيمِن عليه.
الدلائل تجمع على هذه المهمة المنوطة بالحزب، ومن هم خارج "الضمانة" هذه، أي المعترضون على التراتبية "الهيمنية"، ضمن شراكة الهيمنة، يبنون اعتراضاتهم على حقائق اهتزاز التراتبية الموروثة في الكيانية اللبنانية، ويديرون احتجاجهم على قاعدة رفض انفراد طرف أهلي باحتلال موقع "الطائفة الاجتماعية" المهيمنة. لنقل، هذا أمر مفهوم، ولنكملْ، ليكنْ الوضوح في هذا المجال معلناً، بعيداً عن الشعارات الكبرى التي تقول وطنية وسيادة واستقلالاً، أو تقول تحرّراً وكرامة وعزّة وعنفواناً، وما شابه ذلك من مفردات تعبويّة، لا يقصد أصحابها مضامينها.

شعار غير مقصود
عودة إلى بيان "المجلس الوطني"، للقول: إن صاحب البيان لم "يقصد" حقيقة شعار الاحتلال، أو أنه لم يدقّق كثيراً في مضمونه، وهذا تكراراً، بدليل تناقض شرح طريقة "الخلاص" من الاحتلال، بالبنود الميثاقية التي أوردها بيان اتفاق الطائف، الذي ارتضاه المتوافقون. لو أخذنا "بتسرّع" من أَخذَ بعنوان الاحتلال، لَدَعَونا المُعلِن إلى تبنّي القتال ضد "المحتل"، إذ ليس بالمناشدة، أو بالمقاطعة يزول الاحتلال. ولأن ذلك لا يتفق ومقاصد بيان "التحرير"، تبقى الدعوة قائمة إلى اعتماد صيغة رفع الهيمنة الداخلية – الخارجية عن سياق تقدّم الوضع اللبناني، فالهيمنة بما هي عليه الآن، في الداخل ومع الخارج، تشكّل قيداً ثقيلاً على استقامة الأحوال اللبنانية.

لكن كيف يكون رفع الهيمنة؟ يكون بكثير مما شرحه بيان "المجلس الوطني لرفع الاحتلال"، وبشيء ممّا سبق وذكرناه، عن ضرورة بناء ميثاقية جديدة لبنانية، يقوم بأعبائها ميثاقيون لبنانيون جدد، ينصرفون إلى بناء سياق سياسي داخلي جديد، يحاصر التطرف الداخلي أنّى أتى، ويحجز التدخل الخارجي الداعم لهذا التطرف وذاك، فيمنعه من تنفيذ خططه، بالاستناد إلى واحد من أطراف البنية اللبنانية الداخلية.