لا عودة إلى الوراء.. ولا "أمام" أمامنا

يوسف بزي
الخميس   2021/09/09
"الهروب" أو نبقى قابعين هكذا في آثار بلد اندثر (Getty)

مع المشاهد الأولى التي أتتنا بنيسان 2003 من بغداد، صُعقنا بالرثاثة التي تطغى على ملامح الناس وأثوابهم، وتشابههم في البؤس وعلامات الفقر. وبدا أن إهمالاً مديداً ضرب المدينة وسكانها، عدا عن الآثار المهولة لدمار الحرب.

كانت صور بغداد حينذاك تنبئ أن بلداً وشعباً قد أطيح بهما على نحو يذكرنا بآثار حضارات اندثرت.

لم يحدث ذلك في شهر واحد من الحرب. إذ أن فداحة الخراب الاجتماعي والعمراني، والتحلل المادي للمكان والأشياء، و"التماثل" في شقاء الناس ومظهرهم، والرثاثة المعممة، دل كله على إفقار متواصل لزمن طويل في كل نواحي الحياة.

وبغداد في الذاكرة، تلك التي تألقت حتى منتصف السبعينات، ثراء هائلاً ونهضة عمرانية، وازدهاراً ثقافياً استثنائياً، وإقبالاً على اقتراحات الحداثة والتمدّن، كانت تقوم على أجيال متعاقبة منذ مطالع القرن العشرين لنخب عريضة من المتعلمين والتجار ورجال الأعمال والتكنوقراط والأكاديميين الرفيعي المستوى والحقوقيين والأطباء والفنانين والمهندسين والمفكرين والعلماء، علاوة على رسوخ برجوازية مدينية عريقة منذ الزمن العثماني.. أجيال تنكبت مشاريع لا تتوقف في التنمية والاقتصاد والتحديث.

كل هذا تبدد في مشاهد الغبار والبؤس العميم مطلع القرن الجديد. وكان ذلك ذروة الانهيار الشامل.

بدأ الخراب من ذاك العطب السياسي الذي كانت بواكيره في اقتران السلطة بالانقلاب العسكري إلى أن استتب الأمر لديكتاتورية صدام حسين البعثية. معه كانت المسيرة الرهيبة في تحلل الدولة والمجتمع وتبدد الثروة والتصحر الثقافي والعمراني.

هكذا بدأ "الهروب الكبير" من العراق، لأصحاب الكفاءات والشهادات والمهارات والعقول، كما أصحاب الثروات والأعمال والتجارة. وتزامن هذا مع الحرب المتواصلة من العام 1980 إلى 1991، تلاها 12 عاماً من الحصار الخارجي والتوحش الاستبدادي الداخلي. نزيف متواصل وانحطاط متراكم إلى أن أتى مشهد 2003 البائس.

على أنقاض الدولة والمجتمع، وعلى أنقاض حكم القانون وأخلاق التمدن، وفي قاع اليأس والفقر والفوضى، الذي كان وحده "يربي" الأجيال الجديدة، ارتد السكان إلى عصبيات مذهبية وعشائرية ومناطقية. جحافل من جيش محطم ورعاع وبؤساء وأميين، وجموع مليونية مرضوضة بانهيار كل الضوابط الأخلاقية والقانونية، راحت كلها تنخرط في فوضى دموية، مريعة بعنفها وعدميتها.

مزيج العنف والفساد توغّل في العراق منذ 2003 إلى حقبة "داعش". وما بين السبعينات حتى اليوم نصف قرن من الأهوال والقسوة والدم. ذهبت الديكتاتورية وأخذت معها كل شيء: الماضي والمستقبل أيضاً.

السيرة العراقية تكررت في سوريا، وهي مستمرة بإيقاع أكثر كثافة وسرعة. عشر سنوات أفرغت البلاد من ربع سكانها على الأقل. هرب منها نحو ستة ملايين إلى دول الجوار وأوروبا، فيما يتواصل نزيف الهجرة النوعية على نحو لا يمكن تعويضه. أيضاً مزيج العنف والفساد يهيمن بشراسة على الدولة والمجتمع بلا أي أمل بالنجاة من براثنه.

المشهد الأفغاني هو بدوره كان "ناصعاً" في توكيد النموذج الذي يتمدد في "الشرق الأوسط الكبير". فما ابتدأ هناك عام 1979 يستمر بلا هوادة، ماحياً الماضي وعادماً المستقبل.

ونحن في لبنان، وقد ظننا رغم كل الحروب والمآسي، أننا نملك مناعة "حضارية" وإرثاً في الحريات والديموقراطية، وتراثاً في الحداثة وتفوقاً في التمدن، ومجتمعاً مدنياً فاعلاً وقائداً، وصلات متينة بالعالم والعصر، ونخب لا تنضب من المواهب والعقول الكبيرة. بل ظننا أننا "مميزون" عن الجوار باقتصادنا الغني ونمط حياتنا المرفّهة، وبطاقاتنا البشرية، وأننا رواد علم وأعمال وثقافة، ولدينا حياة دستورية وحيوية سياسية وإعلامية وروح متوثبة ومتمردة ضد الطغيان والاستبداد... سنبقى بعيدين عن المشهد العراقي- السوري- الأفغاني أو حتى الصومالي.

أكثر من ذلك، ظننا أننا كدولة تتمتع بأعرض طبقة وسطى، وبأرفع نخبة متعلمة في المنطقة، وبرصيد هائل من الثروات المادية والمعنوية، من الصعب أن يصيبنا فقر وإدقاع وانحطاط. ولم نصدق يوماً أن "الانهيار" هو مصيرنا، ولن يبقى مجرد مبالغة صحافية وإعلامية.

بسنتين فقط، انكشف ما كنا ننكره، ونكابر عليه. لقد كان "يتربى" في أحشاء الدولة والمجتمع ذاك الوحش الذي صنعته أيديولوجيا العنف وأخلاقيات الفساد. وحين سقط دفاعنا الأول والأخير بخريف 2019، فقدنا كل مناعة أمام زحف الانحطاط وكارثة الانهيار.

سنتان مكثفتان أوقعت القطيعة التامة عن ماضينا، عن "لبناننا"، تماماً كما حدث في تلك البلدان المنكوبة. نزيف هائل في مقدراتنا البشرية والعقول الكفوءة وأصحاب الثروات. نخسر "برجوازيتنا الوطنية" ونخبتنا بسرعة مدوّخة. هروب بلا تردد لكل من يملك مهارة أو خبرة أو رصيد مادي أو علمي، فيما خراب البيئة ودمار المقومات الاقتصادية وتحلل الدولة والضوابط الأخلاقية وتفشي الفقر وتتفيه السياسة وغلبة قانون القوة والارتداد إلى العصبيات.. يتكفل بالقضاء على ما تبقى عمراناً ومدنية.

لم ننقطع عن الماضي فقط، ولم نخسر فرصة العودة إلى ذاك الوراء الوردي وحسب. بل فقدنا المستقبل. كأننا سنبقى قابعين هكذا في آثار بلد اندثر.. ولا "أمام" أمامنا.