"تحسين صورة لبنان في الخارج": أوهام ضائعة؟

نبيل الخوري
الخميس   2021/09/16
يحق للوزير عبدالله بو حبيب أن يحلم (دالاتي ونهرا)
خلال حفل التسلم والتسليم في وزارة الخارجية، يوم الأربعاء 14 أيلول 2021، بمناسبة تشكيل حكومة لبنانية جديدة برئاسة نجيب ميقاتي، حدّد الوزير الجديد، عبدالله بو حبيب، مهمّته وفريق عمله من الدبلوماسيين والسفراء، بتحقيق الهدف التالي: "تحسين صورة لبنان في الخارج".

قوله هذا يعكس مدى إدراك الوزير للسياق الذي يتولى فيه المهمة؛ للواقع المزري الذي أدى إلى تهشيم صورة لبنان في الخارج. وكلامه عن أن الظروف الداخلية "الصعبة" تنعكس على السياسة الخارجية وتجعلها "أصعب"، يشير إلى أنه يفترض مسبقاً بأن توفّر شروط تحسين الصورة الذهنية للبنان في العالم، ليس مجرد مهمّة تقنية، مناطة بوزارة الخارجية، ومعزولة عن الواقع العام في البلد.

كي لا تذهب الجهود سدى...
وعليه، فإن الهدف الذي طرحه عبدالله بو حبيب، هو ذات صلة. مطلوب وملحّ. هو حاجة ماسّة. لكن تحقيقه يحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من النوايا الحسنة والكفاءة واللباقة. ولا تكفي الإرادة الدبلوماسية الحازمة لإنجاح استراتيجيات بلوغ هذا الهدف. ولا مهارات الدبلوماسيين في العلاقات العامة والترويج والتسويق. كل الجهود المحتملة ستذهب سُدى، ما لم يحصل تغيير جذري في البلد. ما لم يجر تطهيره من المافيات التي عاثت فيه فساداً. ما لم يتم تحديث الدولة بشكل شامل وكامل. وتحويلها فعلاً إلى دولة قانون ومؤسسات. ما لم يتم إخضاع عمل القطاع الخاص لشرعة أخلاقيات، تكبح وتردع تفلّته وفساده وعشوائيته وانتهاكاته لمعايير التنظيم المدني والبيئة، للأملاك البحرية والجبال والطبيعة، للمصلحة العامة وحتى للكرامة الإنسانية في قطاعات الاستشفاء والتعليم وفي ما يتعلق بحقوق المرأة.

مهمّة مستحيلة
كان محقاً الوزير الجديد حين استهل كلامه قائلاً إن "الظروف صعبة، لكنها غير مستحيلة". لكن لا بد من أنه على يقين بأن مهمّة تحسين الصورة أو حتى مهمات الدبلوماسية الاقتصادية، التي شدد عليها أيضاً، هي مستحيلة في ظل هيمنة فكرة "الربح بأي ثمن" لدى التجار والمقاولين والمتعهدين والمصرفيين ورجال الأعمال الذين يسيطرون على السياسة والعمل السياسي وعلى السلطة في لبنان. هذه الفكرة هي ليس فقط غير أخلاقية، إنما باتت تمثل أيضاً حملاً ثقيلاً وعقبة أمام النهوض من جديد. فمنطق "الربح بأي ثمن" والاستثمار من دون قيود ومعايير أخلاقية وإنسانية واجتماعية وعمرانية وبيئية، ومن دون مساءلة ومحاسبة، ألْحَقَ بلبنان كل هذا الدمار والتشويه والبشاعة والانهيار. والجريمة الكبرى التي ترتكبها المصارف بحق المودعين، كل يوم، هي التطبيق الأكثر وقاحة لمنطق "الربح بأي ثمن".

السمعة المشينة
ليس هذا وحسب. بل هناك عقبات جمّة تُحَول دون تحقيق الهدف المنشود. فكيف ستتحسن صورة لبنان عالمياً، في ظل استمرار سيطرة طبقة حاكمة ذات سمعة مشينة في الخارج وفي الصحافة الدولية؟ وفي ظل اعتيادية ظاهرة السلاح المتفلت، التي تهدد الأمن؟ فضلاً عن استحالة حلّ مشكلة عدم احتكار الدولة للسلاح، وعجز "المقاومة الإسلامية"، لأسباب ذاتية وطائفية وجيوسياسية، عن أن تتمتع بجاذبية عالمية، على غرار المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي مثلاً؟
أي صورة إيجابية للبنان في ظل غياب أي إنجاز اقتصادي؟ بل على العكس، في ظل سياسات متعمّدة، تتسم بالفساد، وأدت إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي وجعل البلد يعتاش من المساعدات الإنسانية الخارجية، الغربية والإيرانية؟
أي أفق ممكن لما طرحه عبدالله بو حبيب، في ظل سياسات عامة رديئة أو فاشلة؟ الأمثلة هنا تفيض، لكن يمكن التوقف عند مسألة النفايات التي تمثّل إدارتها فضيحة كبرى، أو عند محنة قطاع المواصلات والنقل، الذي جرى إهماله من أجل تلبية مصالح مستوردي المحروقات وتجار السيارات. أي صورة ناصعة للبنان العاجز عن حل مشكلة الكهرباء نهائياً، وعن مكافحة التلوث في الهواء والمياه الجوفية والبحر والأنهار، كنهر الليطاني مثلاً؟

انعدام الثقة بالقضاء
أكثر من ذلك، كيف يمكن أن تنجح السياسة الاتصالية والترويجية لوزارة الخارجية من أجل تحسين صورة لبنان وتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية في ظل قضاء غير نزيه وغير مستقل؟ ومسألة الثقة بالقضاء بالغة الأهمية لتكوين صورة مشعّة من جهة، ولنجاح الدبلوماسية الاقتصادية من جهة ثانية. إذ كيف لمستثمر أجنبي أن يجازف في الدخول إلى الأسواق اللبنانية، مع احتمال أن يضطر يوماً للجوء إلى القضاء لتسوية نزاع ما، وهو على علم مسبق بأن هذا القضاء يخضع لأصحاب النفوذ السياسي والمالي والميليشياوي، ويمتنع بالتالي عن النطق بالحق أو يعجز عن تحقيق العدالة؟ أليس مسار التحقيق بجريمة تفجير المرفأ خير دليل على أن الطبقة الحاكمة تريد أن تكرّس لبنان بوصفه بلد الإفلات من العقاب؟

الإمكانات والعقبات
بالطبع، يمتلك لبنان عناصر عديدة تخوله بناء صورة ذهنية لامعة في العالم. إمكاناته السياحية واعدة. لديه موارد بشرية متنوعة، قادرة على وضعه على خريطة الدول المتقدمة والمبتكرة في مجالي التكنولوجيا والاتصالات. ويمتلك لبنان طاقات فنية وثقافية، موسيقية، مسرحية، سينمائية وأدبية، لا يستهان بها. لكن إنعاش السياحة يتطلب سلّة متكاملة من السياسات. بدءاً من وقف التعديات على التراث والآثار، وعلى الأملاك العامة والبحرية، مروراً بخطط بيئية رشيدة، وصولاً إلى خطة نقل ومواصلات حديثة. أما الاستفادة من الموارد البشرية، فتتطلب استراتيجية من شأنها تحفيز القطاعات الصناعية والتكنولوجية والاتصالية، وصولاً إلى تحسين قدراتها التنافسية في الأسواق العالمية. أما القطاع الفني والثقافي، فيحتاج إلى تحريره من "سلة مهملات" الطبقة الحاكمة، لإنعاشه بأكمله، وتمكينه من فرض نفسه في الأسواق العالمية، ضمن استراتيجية قادرة على تعزيز الإشعاع الثقافي للبنان في العالم.

كل هذه المسائل هي بعيدة كل البعد عن أولويات المافيات الحاكمة، التي تدير وتستخدم الحكومة ومؤسسات الدولة كافة بما يخدم مصالحها الخاصة، وبما يوفر لها سهولة الربح السريع، حتى لو كان غير مشروع وغير أخلاقي.
في مواجهة واقع غنائمي ومافياوي كهذا، كيف ستتمكن وزارة الخارجية من تفعيل الدبلوماسية العامة والدبلوماسية الاقتصادية؟ يحق للوزير عبدالله بو حبيب أن يحلم. فلا سياسة من دون حلم. وتحسين صورة لبنان في الخارج هي حلم لكل اللبنانيين. ورهان لا بد منه. لكن من يضمن، في ظل كل المؤشرات السلبية، ألا تكون المهمّات المطروحة مجرد أوهام ضائعة؟