خلدة أو لبنان كله: حزب مسلح وعشيرة مسلحة

نادر فوز
الإثنين   2021/08/02
1 آب، إن كان موعد صدفة أو مخطّط له، محاولة استباقية لإحباط مشهد 4 آب (علي علوش)
يوم 1 آب 2021، نموذج إضافي للدولة التي بنتها أحزاب المنظومة الحاكمة. مشهد ثأر عشائري، مجبول بمذهبية صافية، مكرّس فيه غياب القضاء والمؤسسات وحكم السلاح. مشهد يتعدّى مفهوم اللادولة، ويؤكد صيغة دولة الميليشيات. العشيرة المسلّحة، ميليشيا. الحزب المسلّح، ميليشيا. الطائفة المسلّحة، ميليشيا. الزعامة البكواتية المسلّحة، ميليشيا. وكل هذا يجتمع في أمتار مربّعة قليلة، تتوسّع على امتداد مناطق وأقضية ومحافظات لتلخّص الواقع العام للبلد. لبنان، دولة الميليشيات بغض النظر عن خصائصها، إن كانت عقائدية أو عائلية. ميليشيات تؤكد يومياً للمواطنين العاديين، الخارجين من كل هذه العباءات، أنّ الحكم لها.

القتل والقتل المضاد
في مشهد خلدة، الممتد من خلدة نفسها قبل عام ومن الجيّة قبل ليلة واحدة، تأكيد على حكم هذه الميليشيات. الحزب المسلّح يقتتل مع عشيرة مسلّحة. فيغرق المشهد في قعر إضافي. قتل أول لا محاسبة فيه ولا عدالة. يجرّ قتلاً ثانياً، لا محاسبة فيه ولا عدالة. يجرّ قتلاً ثالثاً، على الأرجح لا محاسبة ولا عدالة فيه أيضاً. وهكذا يستمرّ النزف.
سؤال بديهي لا بد من طرحه: لو حصل القتل والقتل المضاد بين الحزب وعشيرة بقاعية شيعية، هل كان المشهد سيكون على هذه الحال؟ أو حتى عشيرة بقاعية سنّية؟ واقع الأمور يقول لا، وهذا ما يوضحه أساساً أسلوب التعامل لحلحلة أي أزمة ناشئة مع العشائر بقاعاً، في بعلبك نفسها، أو حتى في ضاحية بيروت الجنوبية.

حجر عثرة
عام 2013، في اشتباكات سابقة بين عناصر من حزب الله ومسلّحين من آل الشيّاح (من الأخوة السنّة)، عملت القوى السياسية والأجهزة الأمنية على تطويق المأزق بسرعة فائقة. وفي اشتباكات متكرّرة في الضاحية الجنوبية بين أبناء العشائر نفسها (حجولا وزعيتر)، يسارع حزب الله إلى إخراج نفسه من المشهد داعياً إلى التهدئة. لكن في خلدة مشهد مختلف. عرب خلدة، كأنهم يعيشون في جزيرة، على الباب الجنوبي للعاصمة. وبشكل أدق على البوابة الجنوبية للضاحية. ممرّ إلزامي إليها، خاصرة فعلية. ووفق منطق تمدّد حزب الله من الضاحية إلى محيطها، إلى "الغربية"، إلى "الشرقية"، إلى ساحل الأوتوستراد الجنوبي ومنه للوصل مع الجنوب، لا بد من وضع اليد على هذه المنطقة. وأهل خلدة، عشائرها، حجر عثرة.

حبكة معقّدة
من محض الصدفة، ربما، وقع الاشتباك الأول بين الطرفين في خلدة أواخر آب 2020. في حينه كانت همّة أحزاب السلطة تتركّز على تسمية رئيس للحكومة وتشكيلها عقب انفجار مرفأ بيروت وزيارات الرئيس الفرنسي المرتقبة ومبادرته. اليوم، يتكرّر مشهد القتل في خلدة، مع همّ السلطة تشكيل حكومة لم تبصر النور من حينها، وعلى وقع مبادرة فرنسية ميّتة، وضغوط أوروبية تبحث في فرض العقوبات على المسؤولين اللبنانيين. هل باتت خلدة ممراً أمنياً إلزامياً لتشكيل الحكومات؟ هل أخذت الدور الذي لعبته طرابلس، في جولات الاقتتال فيها على مدى  سنوات، كصندوق بريد أمني؟ إنّ صحّ ذلك، فإنّ جرح خلدة لن يلتئم سريعاً. وبالإساس، تعقيداته توازي تعقيدات المشهد الطرابلسي وربما تتخطّاه. فيه حبكة سياسية وأخرى مذهبية كما حال طرابلس، وفيه أيضاً حبكة ثالثة عشائرية أكثر تعقيداً.

الثقب الأسود
من بيروت، إلى طرابلس وبعلبك وخلدة والجنوب. من دمشق، إلى حلب وإدلب والقنيطرة. يستمرّ تلعيق صور شبّان على نواصي الشوارع. هذا ثابت في قاموس الأحزاب الحاكمة. منها من فرغ من هذا الأمر، ومنها من يواظب عليه. أحزاب المنظومة، تغذّت ومنها من يزال يتغذّى على الدماء. من منها براء من أي دماء؟ في القتل والقتل المضاد. في الاغتيال والاغتيال المضاد. في التجزير والتجزير المضاد. تاريخها حافل بدماء تغذّي وجداناً معطوباً يحرّك ما يحرّكه من مشاعر. وجدان يمكن مطّه سنوات، عقود، قرون إلى الوراء، كثقب أسود قادر على ابتلاع كل شيء.

مشهد خلدة، يجسّد دولة الميليشيات التي بنتها المنظومة الحاكمة. مشهد خلدة، دليل إضافي على ما تريده السلطة. مشهد خلدة، خزي وعار مطلوب أن تغرق فيهما هذه الأحزاب. مشهد خلدة، ترجمة إضافية لمنطق التفلّت وحكم السلاح. مشهد خلدة، تأكيد على أنه لا من دستور ولا من قانون أو قضاء. مشهد خلدة، عودة إلى الضحايا المدنيين والتهجير. مشهد خلدة، تيئيس وإحباط إضافي للناس. مشهد خلدة، يلخّص كل ما في هذه الدولة من عطب. مشهد خلدة، في الأول من آب، استكمال لمشهد 4 آب. 1 آب 2021، إن كان موعد صدفة أو مخطّطاً له، من بين أهدافه المتعدّدة محاولة استباقية لإحباط مشهد 4 آب 2021.