"بيّ الكل" و"بيّ السنّة".. والأخ الأكبر

يوسف بزي
الخميس   2021/07/08
ادعاء الأبوة وتعظيمها يصحّان في شعوب طفلية وقاصرة (دالاتي ونهرا)

ما أن أعلن الرئيس ميشال عون أنه أبٌ لجميع اللبنانيين (بيّ الكل) حتى شعر اللبنانيون أنهم صاروا يتامى. وما أن أعلن الرئيس سعد الحريري أنه أبُ السنّة حتى شعر هؤلاء أنهم ليسوا يتامى فقط بل وجالسون على مائدة اللئام.

وادعاء الأبوة وتعظيمها يصحّان في شعوب طفلية وقاصرة، أو في شعب محكوم بطاغية يرى مواطنيه قاصرين أبداً.

والآباء السيئون هم الذين ينكرون على أبنائهم بلوغهم سن الرشد والاستقلالية مهما امتد العمر بالأبناء واكتسبوا وعياً وخبرة، فيصرّ الآباء على فرض إرادتهم وسلطتهم إلى حدّ مصادرة حياة أبنائهم، وربما تحويلها جحيماً يومياً.

كما أن الأنظمة الأبوية وتقاليدها، عدا شدة تسلطها على الإناث في المجتمع، وتمسكها ببنى القرابة وأخلاقياتها العائلية والعشائرية، وفرض هيمنة الذكور الكبار، فهي أنظمة إخضاع وتحكّم وفق معيار القوة. وهي في السياسة وفي نظام الدولة غالباً ما تكون زعامة مطلقة أو ديكتاتورية سافرة. وفي أقرب مثال إلينا كلبنانيين عن تلك النزعة، نجد "الأب القائد" حافظ الأسد نموذجاً فذاً ومفرطاً في الإصرار على الأبوة كذريعة شرعية للهيمنة والتسلط.

والأبوة، كنظام بطريركي، تستمد قوتها من حيازتها الملكية والميراث والثروة، كما حيازتها القديمة للتبجيل الطوطمي للأباء والأجداد. فهؤلاء الأخيرون يجسدون إرادة الجماعة وأخلاقها وسر بقائها وخلاصها.

وهذا في لبنان يصير كله مسخرة وتشبيهاً رديئاً. فهو بلد "كثير المنازل" والعائلات والآباء والزعماء وأشباه الزعماء. وهؤلاء أيضاً أحالوا ما بقي من الديموقراطية ودستورها وانتخاباتها إلى مسخرة. فلا كانت البطريركية ولا كانت الديموقراطية، إنما شبهة فاسدة ومشوهة.

والحال أن رغبة ميشال عون أن يكون أباً للجميع، ما كانت صادرة من عاطفة خالصة. ففي الإصرار على القول أنه "بيّ الكل" إنما هو إنكار ضمني يصعب تصديقه لتاريخه كأبٍ لفئة أو لبعض الأبناء. وإذ أراد لرئاسته أن تتخذ طابعاً أبوياً حنوناً وراعياً، إلا أنه ظل دائماً كزوج أمّ يرفس من ليس من صلبه ونسله. عدا عن كونه شديد الاعتداد بسلطة الأب السيّد و"القوي". ثم أن تاريخ أبوته الأولى (بيّ المسيحيين الموارنة) لم تكن إلا وبالاً ومصائب، بغض النظر عن نواياه وطموحاته. هذا عدا أنه في النهاية المطاف لم يعد مكترثاً إلا بابن وحيد ممقوت من شطر راجح من الشعب اللبناني.

أما سعد الحريري، والذي حين كان ابناً للكل يحتاج إلى الاحتضان والمؤازرة، فكان أكثر قدرة على الجمع واستدعاء التعاطف والدعم من الجميع. وحينها كان أكثر قدرة على الإنصات والمشاركة، وكانت لدينا أيضاً القدرة على مسامحته بأخطائه وعلّاته وهفواته. أما وقد ساءت حاله وصورته كمن استغل واستمرأ طويلاً استدرار العطف حتى أفسده الدلال، فإن تنطحه لدور أب الطائفة (لا الكلّ)، هو محاولة سيئة لتضخيم الأنا أو تمسكاً طفولياً بلعبة السلطة. وهو بذلك راح يشبه قرينه جبران باسيل الذي يريد "تصغير" اللبنانيين والمسيحيين منهم خصوصاً، طمعاً وتمكيناً لنفسه بأبوة مبكرة ومزيفة.

ويُتمُ اللبنانيين رغم كثرة الآباء، وفي عهد "بيّ الكل"، لربما كان فرصة جيدة في سبيل الخروج من تلك العباءات البطريركية واكتساب النضج والاستقلالية والانطلاق إلى الحياة.. لولا وجود ذاك "الأخ الأكبر" الذي يتميز بقوته وبأسه، وشغفه بأن يلعب دور المرشد والناصح والعارف.. بل هوسه في النظر إلى اللبنانيين بوصفهم أطفالاً سيئين و"لقطاء" يجوز عليهم التأديب العنيف والقسوة كلما شاغبوا أو اعترضوا.

والأخ الأكبر هذا بات لشدة سلطته "أباً" على الآباء، وهو الذي يمسك بفضائحهم وصغائرهم وخياناتهم وضعفهم، وصار يتمتع بكونه بطريركاً فوق العادة، سيداً مطلقاً وبطّاشاً أغلب الأحيان.

ومعضلة اللبنانيين أن يكونوا يتامى إلى هذا الحد، وبآباء كثيرين إلى هذا الحد، ومبتلين بأخٍ أكبر إلى هذا الحد.. فهذه عقدة أكثر سوءاً من عقدة "أوديب" وما فعله بأبيه. وقد لا ينفع معها أن يسملوا عيونهم.