الليل في بيروت

يوسف بزي
الخميس   2021/07/22
لا إنارة ولا نأمة في الشوارع الميتة (علي علّوش)

العتمة ولا شيء غيرها. الليل يستعيد بهيميته هنا. يستعيد سلطته المهيبة والقاهرة. عودة إلى ما قبل انتصار التمدن على الطبيعة. عودة إلى الضعف البشري عارياً خائفاً. عودة إلى العجز الثقيل.

العيش في الظلام، السير فيه، الاستسلام لجبروته ولزمنه السادر والخاوي. انتقال عنيف من القرن الواحد والعشرين إلى ما قبل العصر الصناعي.. إلى زمن الأشباح والغيلان وطغيان السكون والعماء بعد مغيب الشمس.

لا كهرباء هنا، لا إنارة ولا نأمة في الشوارع الميتة. عاصمة في قبضة الظلام، تماماً كما عشتها في تموز- آب 1982 حين كانت الأضواء الوحيدة هي تلك الالتماعات الرهيبة للصواريخ وانفجاراتها.

وزمن العتمة الآن بلا قصف ولا حرب. قدر وأصابنا بمثابرة حثيثة طوال سنتين من التحلل والتعفن اليومي حتى وصلنا إلى الخاتمة الكئيبة، كسقوط حر في ثقب أسود كبير.

في سينوغرافيا الليل القاتم بقلب بيروت يتحول البشر القلائل الخارجون من ضيق منازلهم إلى سلوك مريب، مزيج من الفوضى البرّية واستنفار غريزة الخوف من المجهول. الفتيات والنساء ينكمشن بأجسادهن وهن مسرعات نحو الأمان. الشبان والرجال المتجولون في هذه الساعات يغلب عليهم طابع "الماتشوية" المصطنعة. أصواتهم تصير أعلى ووجوهم تصبح أكثر تجهماً.

أحياء بأكملها مقفرة، لا أضواء ولا متاجر مفتوحة ولا مشاة ولا أصداء سوى لدراجات نارية يمتطيها أولئك الصبية الذين وسموا الزمن اللبناني بالشغب والعنف واحتقار السكان والعابرين، ممتلئين بغضب سياسي عميق الغور.. لم يفعل إلا تدمير أجيال وراء أجيال.

سيارات متهورة بسرعتها.. كأنها تهرب بيأس من هذا الخلاء والفراغ الليلي. كأنها أشباح معدنية تتجول في هذا الاسوداد الكالح، الذي يغلف عمارات ميتة ومطفأة. والسماء أيضاً مطبقة وخانقة. وما ذاك الدكان الوحيد المضيء سوى برهان على ندرة النور. ندرة الحياة نفسها.

وليلة بعد ليلة تتكثف العتمة، ويتحول سكان بيروت إلى كائنات مهزومة ومذلولة مستسلمة إلى هذا القدر. البرادات تموت. المراوح والمكيفات والتلفزيون والكمبيوتر والانترنت والهاتف والمصعد وسخان المياه.. الأشياء والأدوات تنوص وتنطفئ. والناس أيضاً تذهب إلى نعاسها اليومي كاحتضار بطيء مشؤوم وجماعي.

عهد العتمة هذا يكلل المأساة ويتوّجها. كمجاز كبير لنفاد الأشياء ونهايتها. كلحظة تعبيرية متعجرفة ولئيمة عن الإفلاس التام وما يجلبه من عار تاريخي لبلد وشعب وقعا في قبضة التفاهة والفجور والجريمة.

لا أحد "مسؤولاً" عن هذا الظلام، تماماً كما لا أحد يتحمل وزر انفجار نصف العاصمة. البراءة توزّع مجاناً هنا. والعتمة كفيلة بابتلاع الذاكرة، السياسة، الاقتصاد، اللغة... والجريمة أيضاً.

العتمة ولا شيء غيرها، فيما أسير مرتاعاً في شوارع بيروت، حيث أصادف عائلات جالسة على رصيف بلا هدف. هكذا كأنها في تيه. وحيث أرى القمامة تتكوم وسط شارع الحمرا، الذي قيل في مطلع السبعينات إنه "شانزليزيه" الشرق الأوسط، وهو المشهد إياه بأكداس النفايات كان علامة الشارع منتصف الثمانينات، حين انتصرت ميليشيات الممانعة وجاءت باقتصادها وقوانينها وثقافتها وعتمتها.. وكان معها أيضاً انهيار الليرة الذي يتكرر الآن (كان الدولار يساوي خمس ليرات وصار بثلاثة آلاف ليرة، بمعية مدفعية ميشال عون وعهده الأول).

والحقد الذي كان ينمو ضد ليل بيروت المشعشع والمتلألئ في عقدين منصرمين، سهراً وضجيجاً واحتفالاً، وعيشاً يستمتع بفنونه ومسارحه ولهوه. الحقد الذي رأى أضواء الليل فسقاً وفجوراً وانحلالاً، انتصر أخيراً وأطفأ كل شيء. 
هذه هي البلاد التي تليق بـ"سيد العتمة" وتشبهه.