قدر سعد الحريري الميلودرامي اليتيم

محمد أبي سمرا
السبت   2021/06/05
عون وصهره باسيل ورهطهما الجائع إلى المال والسلطان عرفوا من أين تؤكل الكتف (المدن)
ورث سعد الحريري عن والده، فجأةً وفي نهارٍ أسود حالكٍ، ثروة مالية وعقارية هائلة لا تلتهمها النيران، ورصيداً سياسياً، لبنانياً وعربياً ودولياً كبيراً، فبدّدهما. والأحرى أنهما تبدّدا، بل الأرجح أن التبدّد كان قدرهما المحتوم. وكان ذلك محتوماً كقتل رفيق الحريري، عقاباً له على محاولته الخجولة، المترددّة الخائفة، أن يستقل بنزر يسير ضئيل من رصيده السياسي وحضوره السياسي عن التبعيته المفروضة عليه وعلى لبنان لنظام الأسد وسلطانه.

ولا جدال في أن الثروة المالية والعقارية، وكذلك الحضور السياسي والمناصب السياسية والإدارية، في أعراف ذلك النظام السلطاني بأحكامه المبرمة، هي صنيعة التبعية والولاء، بل الزحف على البطون لنيل الرضا والحظوته. أما السياسة في في هذه الحال فتترجح بين قطبين: تبعية وولاء أو خيانة. وإذا كان جزاؤهما تحصيل الثروة والسلطان، فإن جزاء الخيانة أو عقابها هو القتل.


وبناءً على هذه الأعراف والأحكام المعلنة، بوصفها البرنامج السياسي للنظام والدولة والأمة، لم يكن ما حصله الحريري الأب من مال وحضور ورصيد سياسيين في لبنان، سوى تقْدِمةٍ أو أعطِية منَّ بها عليه ووهبه إياها قائد الأمة والشعب الواحد، ونافخ الروح فيهما في دولتين (سوريا ولبنان)، لقاء ولائه الكامل (الحريري الأب) لذاك القائد - الأبد والمعجزة.

وكيف لمن هذه حاله (أي رفيق الحريري) أن تسوّل له نفسه (وهل يمكنُ أن تكونَ له نفسٌ أصلاً؟!) أن يتصرف بنفسه، وبرصيده السياسي وحضوره السياسي من تلقاء نفسه؟ ولأنه فعلها، ولو قليلاً وعلى نحو موارب ومكتوم، صدر حكم الأمة وقائدها على خائنهما: القتل.


وكان أن قرّر العالم الصديق للحريري (أي عدو الأمة وسلطانها) الاقتصاص من نظام الأسد وسلطانه على لبنان، فأخرجهما منه. لذا صدر قرار الثأر، ليس من إرث وورثة الحريري والحريرية فحسب، بل من لبنان كله الذي وُضعت خطة لتدميره، تماماً كما توعّد بشار حافظ الأسد رفيق الحريري في لقائهما الدمشقي الأخير: إذا لم توافق على التجديد لوالي الأسد رئيساً على لبنان، سوف أكسّرُ لبنان على رأسِك ورأس وليد جنبلاط. وهذا ما حصل وتحقق اليوم.

لكن كيف تحقق ذلك ولماذا، وهل هو قدر لا يرد؟


خرج جيش الأسد وأجهزة مخابراته من لبنان، لكنهما تركا فيه إرثاً أسدياً راسخاً وودائع كثيرة: واحدة منها على الأقل شديدة الشراسة. فتكفل ذلك الإرث وتكفلت تلك الوديعة بجعل لبنان الدولة والمجتمع غير قادر على العيش إلا في ما يشبه الغيبوبة والضياع، تكفلهما بإفقاد اللبنانيين قدرتهم على استعادة ذاكرتهم وتراثهم السابقين على دمار حروبهم الأهلية – الإقليمية المديدة، وعلى ما أرساه نظام الأسد في بلدهم وحياتهم السياسية. فنسوا تماماً ألفباء السياسة غير الحربية في تدبير شؤونهم ونزاعاتهم، وهي كانت أصلاً هشة وضعيفة في أزمنة سلمهم الغابر والسابق على احترابهم الأهلي المدمر. 

وأضاف اللبنانيون إلى ذلك التدمير، سكوتهم التام والسادر عن محاسبة أنفسهم عما فعلوه في حروبهم، نظير سكوتهم الآخر - الأشد عماءً وتدميراً من الأول - عن أفعالهم وصغارهم في حقبة "وحدة المسار والمصير". بل إنهم باشروا حياتهم وسوس شؤنهم كلها، كأن شيئاً لم يكن. لا بل أكثر من ذلك وأشد منه غفلةً وعماءً: اتبعوا نظاماً سياسياً لبنانياً مثاله الحرب والولاء، بعد "تحررهم" منه في العام 2005، وبقاء تلك الوديعة الحربية في بلدهم. وكان اتفاق الطائف قد طوّر نظاماً ملبنناً، للحكم وحيازة القوة والثروة والمناصب في لبنان. فلم تعد هذه كلها تتحصل إلا من طريق السلطان السياسي والولاءات العصبية السلطوية المدمرة.


وأمعنت الوديعة العسكرية في إرساء هذا النظام وتمتينه، فروّعت كل من حاول الخروج على سلطانها، واستنزفت سائر القوى والعصبيات اللبنانية الأخرى، ووضعتها بين خيارين: إما الرضوخ والولاء لسياساتها، وإما تدمير لبنان.

وفي هذا السياق راحت تتبدد ثروة الحريري الابن المالية الموروثة، وكذلك تركة والده السياسية. وهذا جرّاء ولقاء الضياع واليتم وعدم مقدرته "الموضوعية" على السير في ركاب تلك السياسات، إلا على نحوٍ قلقٍ ومضطرب ومخاتل تارةً، وطوراً مرغماً، ساكتاً مستسلماً ويائساً. وكأن تبدُّد ثروة سعد الحريري المالية الموروثة، وتركة والده السياسية، كانا قدراً حتمياً يصعب أو يستحيل تداركه، تماماً كما عشنا وشاهدنا وخبرنا يوماً بعد يوم، منذ العام 2005: مسيرة لبنان في طريقه إلى التبدّد، من دون أن نصدق، إلا بعدما اكتمل اليوم تبدده.

وحده ميشال عون وصهره جبران باسيل ورهطهما الجائع جوعاً وصولياً إلى المال والسلطان، عرفوا من أين تؤكل الكتف، منذ أعاد مقتل الحريري، جنرالَ الوعد الخلاصي من فرنسا إلى بيروت، ليباشر من جديد تسلّقه إلى منصب الرئاسة على جثة رفيق الحريري وجثة لبنان.


أما سعد الحريري فقد يكون الشخصية السياسية الميلودرامية الأبرز في لبنان: رماه القدر والإرث العائليان، فجأة وبلا إرادة منه ولا رغبة ولا خبرة في حلبة حيتان السياسة اللبنانية، رفاق درب والده القتيل وأعدائه. وهم جميعاً يعاملونه كأنه يتيم يحتاج إلى رعاية وحماية: من وليد جنبلاط إلى نبيه بري، وصولاً إلى المهرج الكومبارس في مجلس النواب. وحتى ميشال عون يكرهه كراهية عَطُوفة أو مشفِقة، كمن يتبنى ابن عدوه القتيل، قائلاً له: هيا تفاهم مع ابني ووريثي جبران باسيل، وحوّلا جهنم هذه إلى جنّة تجري تحتا وفوقها وفي بحرها الثروات، فتتقاسمان معاً ثرواتها الوفيرة.