التمويل الدولي: ماكرون يلوِّح بإدارة دولية للبنان مقابل إيران؟

نبيل الخوري
الأحد   2021/06/13
"الخطة ب" التي أعلنها ماكرون تعني أن حكّام لبنان أضاعوا فرصة إنقاذ البلد قبل غرقه (Getty)
ماذا سيبقى من "الخدمات العامة" في لبنان بعد الانهيار الاقتصادي والمالي و"تدمير المالية العامة" للدولة؟ كيف ستستمر المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في الاضطلاع بوظائف الأمن والدفاع والقضاء والضمان الاجتماعي والصحة والاستشفاء والتربية والتعليم والكهرباء والمياه والأشغال العامة والمواصلات...؟ هل ستتحلل الدولة وتتعطل الخدمات العامة فيها، لتحل محلها المليشيات والعصابات وقوى الأمر الواقع، فتعمّ الفوضى والمصائب الإنسانية والصحية والاجتماعية؟

هذه الأسئلة مطروحة بإلحاح على الأجندة الدبلوماسية الدولية، مع أن الأجوبة عليها ليست مكتملة بعد ولن تكون بديهية وسهلة أصلاً.

المجتمع المدني والجيش
ثمة ملامح أجوبة تلوح في الأفق. أبرزها الدينامية الدولية لتقديم مساعدات إنسانية مختلفة، وهي تعتمد على المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني. ولكن الواقع يشير إلى أنها محدودة ولا تكفي للتعويض عن التعثر الشامل، لاسيما في مجالات حيوية: تأمين المحروقات والأدوية على كامل الأرض اللبنانية مثلاً.

وهناك الدينامية الدولية المتعلقة بتنظيم دعم الجيش والأجهزة الأمنية وتمويلها في مواجهة عواقب الانهيار. والمؤتمر الدولي المرتقب عقده لهذه الغاية، في أواسط حزيران الحالي (2021)، من المفترض أن يقدم إيضاحات بشأن آليات هذا الدعم وأبعاده ونتائجه المتوقعة.

إيمانويل ماكرون
وبرز في موازاة ذلك طرح جديد على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال مؤتمره الصحافي يوم 10 حزيران 2021 في باريس، مفاده أن فرنسا "تعمل تقنياً مع عدة شركاء من المجتمع الدولي" لإطلاق "نظام تمويل" خاضع "لقيود دولية" ويتيح "تمويل أنشطة (خدمات عامة) أساسية" و"دعم الشعب اللبناني"، وذلك في حال "استمر غياب الحكومة واستمرت الأطراف السياسية (تتصرف) بـ لامسؤولية"، على حد تعبير الرئيس الفرنسي.

كلام ماكرون يفترض أولاً، أن هناك "أنشطة أساسية" تتعلق بالخدمات العامة التي تضطلع بها الدولة، ستتعطل بفعل الانهيار الاقتصادي والمالي وإحجام القوى السياسية الحاكمة عن تشكيل حكومة وتطبيق الإصلاحات المطلوبة للحصول على مساعدات دولية. ويفترض ثانياً، أن فرنسا ودول غربية أخرى لديها خطة استباقية تتدخل بموجبها في إطار إدارة المرحلة الجديدة من الأزمة اللبنانية. بمعنى آخر، تستعد فرنسا للانتقال إلى ما يمكن تسميته بـ"الخطة ب". أي اللجوء إلى الخيار الثاني بعد فقدان الأمل من الخيار الأول المتمثل في التعويل على تشكيل "حكومة مهمة" لإنجاز سلسلة إصلاحات، كشرط للحصول على مساعدات مالية دولية بإشراف "صندوق النقد الدولي".

تمويل وإداة دوليان؟
"الخطة ب" تعني أن حكّام لبنان أضاعوا فرصة إنقاذ البلد قبل غرقه نهائياً. وهي فرصة كانت متاحة منذ "مؤتمر سيدر" عام 2018. لكن شروط حصول لبنان على 11 مليار دولار آنذاك، أو على أي برنامج دعم خاص بـ"صندوق النقد الدولي"، كانت ولا تزال تتمثل في تطبيق إصلاحات بنيوية وقطاعية شاملة، وضمان أن الأموال الممنوحة، كقروض أو كهبات، لن تذهب إلى جيوب الحكّام وحاشيتهم من كبار رجال الأعمال الفاسدين. هذا ما لم يتحقق أبداً. لأن القوى المهيمنة على السلطة لا تريد وقف نظام النهب والمحاصصة ولا تريد أي مساءلة ومحاسبة.

في المحصلة، أدى التقاعس إلى تسارع وتيرة الانهيار. هكذا، بات مصير الاستقرار الأمني على المحك. أما الأمن الغذائي والصحي، فحدّث ولا حرج: القدرة الشرائية في سقوط حر؛ وارتفاع غير معقول لأسعار المواد الغذائية والاستهلاكية؛ وندرة المحروقات، كالبنزين والمازوت، مع احتمال ارتفاع أسعارها في حال تم رفع أو ترشيد "الدعم" الذي يتولاه "مصرف لبنان"؛ وانقطاع الأدوية وحليب الأطفال عن الصيدليات؛ وحاجات أساسية لعمل المستشفيات لم تعد متوفرة.

وماذا عن عمل الإدارات العامة: الكهرباء والإنترنت، وصيانة الطرق، وجمع النفايات؟ وماذا عن قدرة القضاة وأساتذة المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية على أداء عملهم في ظل تراجع قيمة رواتبهم بالليرة اللبنانية...؟

هذه التهديدات كلها يدركها ماكرون وشركاؤه. لكن يبقى السؤال عن معرفة ماذا كان يقصد الرئيس الفرنسي بالتحديد، حين تحدث عن "نظام تمويل" يهدف إلى ضمان استمرارية عمل "أنشطة أساسية" في الدولة اللبنانية؟ هل يبقى هذا التمويل محصوراً بالجيش والأجهزة الأمنية؟ أم سيشمل خدمات عامة أخرى، كالعدل والتعليم والصحة والاتصالات والكهرباء؟ بمعنى آخر، هل أن "نظام التمويل" الذي تحدث عنه ماكرون، يشمل حوالي 160 إلى 180 ألف موظف في القطاع العام (من أصل 320 ألف)، موزعين بين 120 ألف في القوى الأمنية والعسكرية، و40 ألف في التعليم الرسمي، والبقية في بعض الوزارات والإدارات العامة الأساسية؟ (وذلك بحسب أرقام تقريبية أوردتها مؤخراً مؤسسة "الدولية للمعلومات" في إطار تقرير لها عن "العاملين في القطاع العام"). وهل يعني كلام ماكرون أن فرنسا تخطط مع شركائها الدوليين، مثلاً، لكيفية الحفاظ على القدرة التشغيلية لأكثر من 1200 مدرسة رسمية تستقبل وتعدّ أكثر من 300 ألف تلميذ في لبنان؟ وهل يتعلق الأمر أيضاً بدعم حوالى 30 مستشفى حكومياً؟

الدبلوماسية الفرنسية مطالبة بتوضيح ما يقصده ماكرون بالملموس، تجنباً لأي غموض. لأنه في حال كانت هناك رؤية فرنسية شاملة للحفاظ على استمرارية تلك الخدمات العامة، فهذا يفتح الباب أمام تحولات جذرية في لبنان. إذ يمكن الاستنتاج بأن فرنسا وقوى دولية أخرى تستعد لإطلاق "إدارة دولية" لعدد من القطاعات والمرافق العامة. وهذا يعني عملياً فرض "وصاية" محددة وغير معلنة ربما على لبنان. وفي ظل الواقع اللبناني الراهن، فإن من شأن كل ذلك أن يعني عملياً تكريس ما يعرف بنظام الـ"كو ــ إمبريوم" (Co-imperium) الغربي ــ الإيراني في لبنان، طالما أن حزب الله يتولى أصلاً، بتمويل إيراني وذاتي، تنظيم شيء من الإدارة الذاتية في ظل الانهيار وتآكل ما بقي من دور للدولة.

وإذا أصبح قسم أساسي من القطاع العام في البلد يعمل بتمويل دولي، ألا يعزز ذلك فرصة تقليص وإضعاف الشبكات الزبائنية التي تخدم مصالح القوى المهيمنة على السلطة، كونها استفادت من التوظيفات في مؤسسات الدولة كافة في "شراء" الولاءات بما يغذي شبكاتها الزبائنية ويوفر لها رصيداً انتخابياً كفيلاً بتجديد بقائها في السلطة؟

تساؤل كهذا يمهد لفرضية مفادها أن أي نظام دولي لتمويل جانب من الخدمات العامة، في ظل الانهيار اللبناني، يصبّ في خانة إضعاف القوى التقليدية الحاكمة ويعزز فرص التغيير السياسي.