وقائع طرابلس وإذلال اللبنانيين: الثورة المنطفئة ترهيباً ويأساً

جنى الدهيبي
السبت   2021/03/06
لا يمكن التقليل من أهمية نزول ولو العشرات إلى الشارع (المدن)

بينما صار الإذلال معجونًا بيوميات اللبنانيين البائسة، استطاعت السلطة أن تدفع الناس نهارًا لتفجير غضبها ببعضها البعض، سواء على علبة حليب "نيدو" أو عبوة زيت مدعومة؛ أمّا ليلًا، فأعطتهم الفرصة للتنفيس عن هذا الغضب، عبر إحراق الإطارات وقطع الطرقات، على بعضهم البعض أيضًا. لتبقى هي، سلطة "نيترات الأمونيوم" كما لقبها كثيرون، بمنأى عن أي أذى مباشر من نيران الناس التي تلتهب من سخطها.  

ربما يواجه اللبنانيون صعوبة بالغة لوصف ما يحدث وما يعيشونه، بعد أن تخطى بفظاعته نماذج دول العالم المفلسة والمنهارة، والتي تقودها زمرة من الفاسدين الطائفيين المتسلطين. ومع ذلك، لم يستعد لبنان مشهدية 17 تشرين، وقد يكون لذلك مبرراته بعد أكثر من عام على استنزاف طاقة الناس الذين غرقوا بهمومهم ومعاناتهم المعيشية ويأسهم السياسي.  

لكن، هل ما زال المضي بأدوات المواجهة نفسها مجديًا؟  
بعد أن لامس الدولار قبل أيام سقف 10 آلاف ليرة، استأنفت بعض المجموعات تحركاتها بقطع الطرقات وإضرام النيران، من دون أن تنجح محاولاتها بعد باستجداء اللبنانيين للنزول أفواجًا إلى الشوارع للمطالبة بأبسط حقوقهم، علمًا أن البلاد تمر بأسوأ الظروف منذ بدء الأزمة في خريف 2019. وحتى لو كان رقم 10 آلاف حاجزًا نفسيًا كنّا نخشى كسره، لكن ما الفرق بينه وبين 9 آلاف، أو حتى 8 آلاف؟ هل كان مستوى الغلاء المعيشي مقبولًا حينها؟ من كان يتخيل أصلًا قبل 17 تشرين الثاني 2019 أن يتحمل اللبنانيين انهيار عملتهم إلى 5 آلاف ليرة مقابل الدولار؟  

كلّ ذلك حصل، ثمّ توّج بانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، بينما التحركات في الشارع تنحسر يومًا بعد آخر بحجمها ومفعولها وقدرتها على التأثير، في وقتٍ يتفاقم استشراس قوى السلطة على بعضها البعض وعلى اللبنانيين الذين تقمعهم بشتى الأساليب، تكريسًا لمصالحها وحساباتها.  

ولعل ما حدث أخيرًا في طرابلس نهاية كانون الثاني الفائت، كان تجربة فاعلة للمنحى الذي يمكن أن تنتهي به التحركات في الشارع، ليصبح كل متظاهر بعد الأزمة، مشروع متهم بـ"الإرهاب والسرقة".  

ينطلق رئيس لجنة السجنون في نقابة محامي طرابلس، محمد صبلوح، من هذه الفكرة، معتبرًا أن المسار الذي أخذته التحقيقات مع المتهمين بأحداث طرابلس، الذين بقي منهم 11 موقوفًا لدى المحكمة العسكرية، كان متعمدًا بكل تفاصيله، لترهيب اللبنانيين بأدوات جديدة من القمع. وقال لـ"المدن": "بدل التحقيق مع القيادات الأمنية والسياسية ومع المحافظ لكشف إلتباسات ما حصل، لجأت المحكمة العسكرية لسلوكٍ كيدي، كان الهدف منه شيطنة تحركات الناس التي تطالب بلقمة عيشها".  

ومع تدهور الأوضاع، لا يستبعد صبلوح أن يُحاك مخطط جديد لتشويه صورة طرابلس من خلال الشارع، وهو أحد الأسباب التي دفعت الناس للاعتكاف بمنازلها، "لكن الجوع كافر والبلاد مشّرعة على كل احتمالات الفوضى، والخوف على طرابلس التي تُحاك المؤامرات السياسية من قلبها"، وفق تعبير المحامي.  

وبعد تلك الأحداث التي عاشتها طرابلس وانتهت بإحراق مبنى البلدية، تختصر التحركات في المدينة على قطع الطرقات من قبل العشرات فقط، وتظاهرات غاضبة أحيانًا تحت منازل النواب وقيادات طرابلس.  

لا وضوح
وهنا، يلفت الأكاديمي والناشط السياسي جيمي كرم - الذي سبق أن كان مشاركًا فاعلًا بحلقات النقاش السياسي التي عقدت خلال انتفاضة 17 تشرين على هامش ساحة النور – أنه لا يمكن التقليل من أهمية نزول ولو العشرات إلى الشارع، ما دام ذلك سبيلًا للتعبير عن غضبهم. ومع ذلك، يعتبر أن اعتكاف المجموعات المدنية عن المشاركة بهذه التحركات، قد يكون نابعًا من عدم وضوح الرؤيا. ففي 17 تشرين، وفق حديثه لـ"المدن"، كان ثمة بعض العناوين الواضحة، كإسقاط الحكومة، والرئاستين الأولى والثانية، والدعوة لانتخابات نيابية مبكرة، واستعادة الأموال المنهوبة، فلم يتحقق منها شكليًا إلا الأولى، وتصدرت طرابلس مشهد التحركات والضغط الشعبي، قبل أن تتلاشى تلك المطالب واحدة تلو الأخرى.    

ويعتبر الأكاديمي أن السلطة استطاعت أن تضيّع بوصلة التحركات، بعد أن جعلت معركة الناس تختصر على تأمين لقمة عيشها.  

ويرى كرم أن معظم اللبنانيين حاليًا قد لا يملكون ترف النزول إلى الشارع، وربما يشعرون بخيبة نتائج 17 تشرين. وقال: إننا حاليًا بمرحلة "إلتقاط أنفاس" لجميع الشرائح اللبنانية التي تتخبط بقلب الإنهيار وتعيش تحت وطأة تداعياته؛ بينما تعيش السلطة بمكان آخر، لكن اللبنانيين يفكرون بمواجهة السلطة، سواء عبر الشارع بشكل متقطع، أو تحضيرًا لمحاولة التغيير الديموقراطية في انتخابات 2023، بصرف النظر عن نتائجها".