صدقية أميركا وقانون ماغنيتسكي: عاقبوا فاسدي 14 آذار أيضاً

نبيل الخوري
الأربعاء   2021/02/24
لا بد من انتشال ملف العقوبات الأميركية من فخ التسييس والانتقائية (مصطفى جمال الدين)

العقوبات الأميركية على خلفية انتهاك القانون الدولي أو حقوق الإنسان، أو على خلفية الإرهاب وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، يمكن أن تكون استنسابية وانتقائية أحياناً. قد تخضع لمنطق المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين. عقوبات كهذه تثير الجدل. لكن ماذا عن العقوبات التي بدأت واشنطن بفرْضها على خلفية الفساد ونهب المال العام؟ أي جدل تثير؟

السياسة العقابية
ثمّة من يعارض العقوبات في الغرب، ليس من حيث المبدأ، إنما من حيث الفعالية. هم محقون نسبياً. لأن العقوبات على نظام سياسي استبدادي في دولة ما، لا تؤدي إلى تغيير سلوكه بقدر ما ترهق المواطنين. في الغرب أيضاً، هناك من يدين المعايير المزدوجة الأميركية: واشنطن لا تتردد في فرض عقوبات على عراق صدام حسين، عندما احتل الكويت، عام 1990 (...). لكنها ترفض معاقبة إسرائيل التي احتلت وتحتل أراضٍ عربية. هناك مثل آخر يتعلق بالسياسة العقابية الأميركية المكثفة التي تستهدف حزب الله. قد لا تجد في الغرب من يعترض على تدابير من شأنها القضاء على ما تعتبره واشنطن شبكات تمويل "الإرهاب" وتبييض الأموال، وتقول إن الحزب "يستفيد" منها. وقد ارتفع عدد الدول التي باتت تصنّف هذا التنظيم بجناحيه العسكري والسياسي بوصفه "منظمة إرهابية". لكن يوجد من يميّز بينهما، تحت حجة أن هذا الفصيل يمثل طائفة أساسية في التكوين الاجتماعي اللبناني، ولا بد بالتالي من الحوار معه. من هنا نظرة البعض بحذر تجاه أي سياسة عقابية مفرطة. ثمة مَنْ يؤيد في لبنان تلك العقوبات، بشكل ضمني على الأقل. وهناك من يعتبرها مسيّسة أو غير عادلة. أي أن الحليفة الأولى لإسرائيل في العالم تعاقب كل من يتجرأ على مقاومتها.

يمثل ملف العقوبات الأميركية على حزب الله إشكالية معقدة في السياسة الداخلية وتحدياً مربكاً للسياسة الخارجية لبيروت. لكن منذ شهر كانون الأول 2017، لم تعد مسألة العقوبات محصورة بهذا الطرف. باتت ممارسات الفساد خاضعة بدورها لاستهداف أميركي مركّز، بعدما وقّع الرئيس السابق، دونالد ترامب، أمراً تنفيذياً رقمه "13818"، يساهم في توسيع نطاق قانون "ماغنيتسكي".

الأصل الروسي
عام 2012، صدر هذا القانون وكان يستهدف بشكل خاص روسيا، على خلفية انتهاكات حقوق الإنسان. وهو أتى كرد فعل أميركي على وفاة المدقق المالي الروسي، سيرغي ماغنيتسكي، في السجن عام 2009، بعدما كشف عن عمليات فساد واحتيال وتهرب ضريبي تورط بها نافذون في موسكو. فعوقب هو بدل معاقبتهم هم! عام 2016، تم توسيع نطاق القانون ليستهدف أي منتهك لحقوق الإنسان أو مرتكب لانتهاكات فساد جسيمة على الصعيد الدولي عموماً. من الأساس، هناك علاقة بين هذا القانون ومسألة الفساد. لكن الأمر التنفيذي رقم "13818" جعلها مسألة أكثر إلحاحاً وأتاح توسيع دائرة استهداف الفاسدين في العالم. والعقوبات تشمل من يتورط مثلاً بـ"الاستيلاء على أصول الدولة"، وبفساد يطال "العقود الحكومية" أو "استخراج الموارد الطبيعية"، وبـ"الرشوة"، وحتى بـ"نقل أو تسهيل تحويل عائدات الفساد".

بموازاة مكافحة "الإرهاب"، قررت واشنطن إذاً فتح معركة مكافحة الفساد في العالم. تصرف كهذا هو بمثابة انتهاك صارخ لسيادة الدول. لكن لما لا، طالما أن سيادة الدول باتت ذريعة لدى سياسيين ورجال أعمال فاسدين وأوليغارشيين وأحزاب فاشية لنهب موارد الدولة والمالية العامة هنا وهناك؟ بدل من الاعتراض على "قانون ماغنيتسكي" الأميركي، أليس من المستحسن المطالبة بتعميمه كتجربة على بقية حكومات الدول؟ وذلك من أجل محاصرة الفاسدين في كل مكان، وصولاً إلى القضاء عليهم، وإعادة بناء الدول على أسس الحوكمة الرشيدة والنزاهة والشفافية والمساءلة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والديموقراطية وتداول السلطة.

التجربة اللبنانية
يبقى أن المعيار الأساسي في تحديد الموقف من "قانون ماغنيستكي"، وفي تقييمه، يتمثل بكيفية تنفيذه. فهل يخضع هو أيضاً لسياسة المعايير المزدوجة والاستنسابية المعتادة لدى واشنطن في مجالات أخرى؟ لعل الحالة اللبنانية تشكل حتى اليوم مثلاً غير مطمئن.

في أيلول 2020، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على الوزير، علي حسن خليل، المقرب من رئيس حركة "أمل"، نبيه برّي، وعلى الوزير يوسف فنيانوس، المقرب من زعيم حزب "المردة"، سليمان فرنجية. أما الأسباب فترتبط، وفق التبرير الأميركي، بتسهيل أعمال وصفقات لمصلحة حزب الله، وكذلك بممارسات فساد واستغلال منصبيهما لتحقيق منافع خاصة. واضحة هنا التوليفة بين العقوبات التي تندرج في خانة ما تسميه واشنطن "مكافحة الإرهاب" وتلك التي باتت تفرضها أيضاً بموجب "قانون ماغنيتسكي" بفرعه الخاص بانتهاكات الفساد.

في تشرين الثاني 2020، طالت العقوبات الصادرة عن وزارة الخزانة الأميركية، رئيس "التيار الوطني الحر"، جبران باسيل. وهي بررت الإجراءات العقابية بحقه تحت ذرائع تتعلق بالفساد، خصوصاً في مجال الطاقة. وأدرجتها بوضوح في خانة "قانون ماغنيتسكي". وحدها وزارة الخارجية الأميركية عادت وأعلنت لاحقاً في بيان منفصل أن العقوبات على باسيل تندرج أيضاً في خانة مكافحة "الإرهاب"، على غرار تلك المفروضة على كل من حسن خليل وفنيانوس، محددةً أن باسيل ساهم في "تشجيع أنشطة حزب الله المزعزعة للاستقرار".

السياسيون المعنيون برزمة العقوبات هذه يقولون إنهم أبرياء. ومن السهل عليهم إقناع الجمهور بأن هذه العقوبات مسيسة، تستهدفهم فقط بسبب مواقفهم السياسية الداعمة لحزب الله بما يمثله من محور "ممانعة". ذلك أن اقتصار العقوبات الأميركية على فريق "8 آذار"، حليف سوريا وإيران، من شأنه تحفيز الشكوك. إما أن واشنطن تعتمد المعايير المزدوجة، فتفرض العقوبات على السياسيين الفاسدين المعارضين لها، وتستثني الفاسدين إذا كانوا حلفاءها. وإما أن الاتهامات لا أساس من الصحّة، وأن واشنطن تمارس الافتراء على السياسيين "الملائكة" في لبنان، فقط لأنهم يعارضون سياستها في الشرق الأوسط.

الشركاء بالفساد
طبعاً، لا أحد يصدق أن الحكّام في لبنان ملائكة، إلا أنصارهم وأزلامهم والمنتفعين من فسادهم وسياساتهم الزبائنية. لكن لن تكون العقوبات فاعلة إلا إذا كانت عادلة وشاملة. أي أن تشمل كل متورط بالفساد، سواء كان معارضاً أو حليفاً لأميركا. فلا أحد مقتنع في لبنان بأن رموز الفساد ينتمون حصرياً إلى تحالف "8 آذار". لا يمكن منطقياً أن تكون دوائر وكواليس بري وفرنجية وباسيل وحزب الله متورطة بانتهاكات الفساد، وحدها، فيما دوائر وكواليس فريق "14 آذار"، خصوصاً سعد الحريري ووليد جنبلاط، وكذلك دهاليز المصرفيين وحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، بريئة من ممارسات شنيعة كهذه. فالجميع شركاء في هذا النظام اللبناني الذي قيل عنه يوماً أنه يُدَرّس في الجامعات كحالة فساد نموذجية واستثنائية في العالم.

لا بد إذاً من انتشال ملف العقوبات من فخ التسييس والانتقائية. فلبنان يحتاج إلى دعم حكومات الدول للتخلص من الفاسدين، عبر تقديم معلومات شفافة عن صفقاتهم وحساباتهم المصرفية في أوروبا وأميركا وفي "الجنات الضريبية"، وتجميدها وإعادة الأموال المنهوبة. يحتاج خصوصاً إلى إدانتهم جميعاً وبسرعة، إذا كانت الولايات المتحدة وغيرها من الدول تمتلك أدلة دامغة على تورط كل هؤلاء بالفساد. أكثر من ذلك، يمثل تضامن الدول مع سكان لبنان، عبر فرض عقوبات على الفاسدين فيه، ممراً إلزامياً لسقوط هذه الطبقة الحاكمة برموزها كافة، أو على الأقل لإضعافها وتقليص نفوذها والحدّ من تحكمها بمفاصل الدولة. فهل ستقوم واشنطن بتوسيع دائرة المستهدفين اللبنانيين بعقوباتها حول الفساد، أم أن صدقية أميركا أمام الرأي العام اللبناني والعالمي ستكون على المحك؟