الثنائية الشيعية: مطلب حق في زمن باطل

أحمد جابر
الجمعة   2020/09/25
ثنائية الحاكم والمتحكم، هي التي تقود السياسة الرسمية اللبنانية (علي علّوش)

دخلت الشيعية السياسية في اشتباك متدرج مع "الوضعية" اللبنانية ما بعد لحظة تحرير الأرض المحتلة بقليل، فمنذ 25 أيار عام 2000 تاريخ انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من لبنان، ابتكرت الشيعية، برعاية حليفها السوري، مسألة مزارع شبعا المحتلة، ورفعت شعار استكمال تحرير الأرض اللبنانية. مطلب تحرير ما تبقى من الأرض مطلب حق، لكن زمن المطلب كان زمناً باطلاً. مصدر بطلان الزمن، هو ربط مسار الوضع اللبناني صوب محطات استقامته واستعادة عافيته، بطلب الاحتفاظ بالسلاح، والتصرف لاحقاً وفقاً لسياسة متداخلة، سورية وداخلية، جعلت الداخل اللبناني رهينةً لها، ثم صارت قيداً عليه. ثقل القيد هنا، تعاظم محطة بعد محطة، خاصة، ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، مروراً بمحطات مؤتمر الدوحة، ومحطات التسويات التي تلتها، والتي كان من نتيجة إحداها، انتخاب الرئيس الحالي للجمهورية اللبنانية.

سياسة النقاط التحكمية
ثنائية الحاكم والمتحكم، هي التي تقود السياسة الرسمية اللبنانية. ضمن هذه المعادلة، الحاكم الرسمي، في المواقع التنفيذية لا يحكم، لكنه هو المسؤول، وهو موضوع المحاسبة عن حصيلة سياساته، والمتحكم الشعبي، الذي هو تحالف الشيعية السياسية المغطّى بتفاهمات الداخل، وبدعم الخارج، يحكم، لكنه غير مسؤول وغير مُساءَل، أمام جمهوره، وأمام مجموع اللبنانيين. صيغة الحاكم الذي لا يحكم، والمتحكم الذي يحكم، موروثة من زمن حقبة الوصاية السورية على لبنان، وقد آل أمرها إلى حلفاء الداخل، الذين مدّوا وصايتهم على الوضعية السورية، بقوة الدعم القتالي المباشر، وبقوة التدخل الإيراني الذي أراد مدَّ نفوذ بلاده إلى شواطئ المتوسط، وإلى الحدود مع فلسطين المحتلة.

قرابة عقدين من الزمن، أي منذ سنة 2000، وحتى العام الحالي، كانت السياسة التحكمية التي اعتمدتها الثنائية الشيعية، سياسة الفوز بالنقاط، ولم تجد سبباً للسعي إلى الفوز بالضربة القاضية، ربما لأن "حلبة الملاكمة" اللبنانية لا تتيح الفوز لبطل أوحد، وربما أن رؤية خاسر على الحلبة ذاتها، ما زالت غير ممكنة في الأحوال اللبنانية المعروفة.

رفع سقف النقاط
باسم الثنائية الشيعية، رفع رئيس المجلس النيابي، سقف نقاطه، فتمسك بحقيبة المالية، وأصرَّ على حرية الثنائي في اختيار أسماء وزرائه. التدقيق في سلوك رفع سقف المطالب، وفي تصعيد لهجة المطالبة، يمكن أن يؤخذ على سبيل مقارن مع السلوك النقابي، بحيث يعتمد المطلب الأعلى، بينما يكون المضمر هو الوصول إلى الحد الأدنى المعقول والممكن من المطالب. هذه قراءة تحاول أن تكون إيجابية وحسنة الظن بأصحاب المطلب، فهل إن الأمر كذلك؟ إذا وضعت القراءة في اعتبارها حنكة ودراية الثنائية السياسية، تكن خلاصة الرأي، أن المطلوب هو الفوز بنقطة "تحكمية" أخرى، طالما أن السياسة هي سياسة النقاط، هذا في الداخل، أما في الخارج، أي على مستوى داعمي الثنائية، فإن الحنكة ذاتها المنسوبة إلى الخارج، خصوصاً الخارج الإيراني، تقتضي القول، إن الراعي الخارجي يعلم ما يمكن وما لا يمكن في زمن التجاذب الإقليمي الصعب، ويدرك الراعي ذاته، ما يمكن أن تتحمله البنية اللبنانية، وما يمكن أن يؤدي إلى انفجارها ومن ثم إلى انهيارها. استدراكاً، من المفيد القول، إن الثنائية الشيعية تريد "الدولة"، ولا تريد فقدانها، وإيران تريد لبنان مركز نفوذٍ لها، ولا تريد خسرانها، لذلك، قد يكون صعباً، سياسياً وتحليلياً القول، إن وجود لبنان ودولته، سيّان في عين الخطة السياسية الإيرانية، وفي مسار سلوك حلفائها.

حق في زمن باطل
أولاً، يجب التمييز دائماً بين طائفة الشيعة ككتلة أهلية اجتماعية، وبين أحزابها، وفي الحالة الراهنة، التمييز هدف ضروري لكل قارئ في كتاب أحوال البنية اللبنانية، وفي مسار تطورها وتقلباتها وانقلاباتها.

مع التمييز الضروري، يجب رفض مقولة التماهي بين مطلب "السياسية" التي تقود الشيعية، وبين الشيعية كلها، من باب المقارنة والتذكير، لقد سبق لأطرافٍ من المسيحية السياسية أن أقامت التماهي بين الطائفة والكيان، وجعلت وجوده مرتبطاً ارتباطاً مصيرياً بوجود سياساتها.. وكان أن ارتدّت هكذا سياسات بالخسارة الشاملة، على الطائفة المسيحية، وعلى أحزابها، وعلى مجموع الكيانات اللبنانية، في حياتها وفي عمرانها. تكرار المقولة عينها من قبل الثنائي الشيعي يجب رفضها، من قبل صفوف من داخل الطائفة الشيعية أولاً، ومن قبل مجموع اللبنانيين ثانياً، والرفض يجب أن يكون تجاوزياً، أي متقدماً وطنياً، ومتجاوزاً مجتمعياً، على الطوائف مجتمعة، وليس على طائفة دون غيرها من بين سائر قريناتها. مناسبة القول هذا، نجد أساسها في معطيات الظرف اللبناني الحالي، الذي له سمات استثنائية على وجوه شتى، مما يجعل كل مطلب حق، في الزمن العادي، مطلباً يكاد يكون باطلاً في الزمن الباطل غير العادي، والحال، فإن الزمن اللبناني الراهن، هو زمن باطل. لذلك، فإن المطلب الشيعي – الثنائي، كان ليكون مدار نقاشٍ هادئ، لو علت نبرته في حقبة لبنانية عادية. في شرح ذلك، أي في شرح مطلب الشيعية، كان من الممكن، وفي زمن هادئ، أن يدلى بمعطيات مجتمعية، فيها الاقتصاد والسياسة والثقافة والاندماج، والمساهمة الوطنية العامة، ليقال بعدها، أن تطور وضع الكتلة الشيعية، بات يتيح تحسين مواقعها في "الدولة"، أي أنه بات ممكناً نقاش غُنُم هذه الكتلة، بمقدار ما تضيفه من مغانم، إلى البناء الوطني العام. هذا مطلب حق في هدأة الظروف، والنطق به حق أيضاً، لكن في ظرف آخر، ومع مقدماتٍ أخرى، يصبح طرح الطلب طرحاً "معوِّقاً" ومعرقلاً، على صورة ما أعلنته الثنائية الشيعية اليوم، وفي معرض تشكيل "حكومة المهمة الإنقاذية"، التي اقترحتها فرنسا، ووافق عليها كل من اجتمع مع الرئيس الفرنسي ماكرون، ولم يخالفه فيها كل من سمعه.

تجاوز إنقاذي
تستطيع الثنائية الشيعية المساهمة في العملية الإنقاذية المقترحة، وعليها أن تفعل ذلك. هذا إن حصل، سيضيف إلى الشيعية رصيداً وطنياً عاماً، وكل رصيدٍ وطني تكون ترجمته مصالح ملموسة، تضاف إلى مصالح كل طيف أهلي بعينه.

إن فائض القوة الذي ينسب إلى الشيعية، محدود الميادين، ومقيد بقيود داخلية، قبل أن يكون مقيداً بقيودٍ خارجية، لذلك، فإن حسابات الانقلابات المدوية، ليست على جدول اجتماع البنية اللبنانية، وليست أيضاً على جدول أعمال الثنائية الشيعية.

نستطيع، ومن باب التأني التحليلي، أن ننوب عن الثنائية الشيعية بالقول، إنها "حريصة" على لبنان، على طريقتها، ووفقاً لما يشبه ما هو موجود لدى الطوائف الأخرى من حرص. لذلك، وتأسيساً ما ننسبه إلى الشيعية، فإن هذه الأخيرة مطالبة بلعب دوري أساسي لدى راعيها الخارجي، مضمونه التوجه إليه بملخص سياسيٍّ، يشرح واقع الحال اللبناني، ويقدِّم خلاصة مسؤولةً فحواها: أنه بات من غير الممكن، بل من المستحيل، تحميل لبنان، كوطنٍ وكاجتماعٍ أهلي، حملاً ثقيلاً يضاف إلى أثقالِ معضلاته. نعتقد بقدرة الثنائي على قول ذلك، ونعتقد بمسؤوليته عن القول، هذا لأن الاعتقاد قائم على أن الكتلة الشيعية ليست "جالية" خارجية موجودة في لبنان، وفي هذا النفيّ عن الشيعية نفيٌ عن كل الطوائف التي كان ينسب إليها وضع الجالية، لنقصٍ في لبنانيتها، أو لنقصٍ في عروبتها، وهذا مما عرفته جيداً الحقبات اللبنانية.

خلاصة سريعة
لا يقوى اللبنانيون على مواجهة ما هم فيه، ولن يقووا على مواجهة ما هم ذاهبون إليه، ولا يستطيع من هو في موقع المسؤولية أن يهرب من مسؤوليته العامة أو من مسؤوليته الخاصة، لذلك، فإن الخيار الوحيد المفتوح، هو خيار النزول من أعلى شجرة التصعيد، نزولاً يفيد لبنان، وإلاّ، فإن كل ثبات في الأعلى يستبطن قراراً بإلقاء لبنان في درك الانهيار الأسوأ... فهل قراركم هو هذا الاختيار؟