أشيبُ الحكومة استقال.. ابحثوا عن "فتى الخارجية"!

نادر فوز
الإثنين   2020/08/03
بلسان حتّي دانت قمة وزراء الخارجية العرب مجزرة كيماوي الغوطة ونظام الأسد عام 2013 (عباس سلمان)
يوم تسلّم الوزير ناصيف حتّي وزارة الخارجية والمغتربين من صهر رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني، النائب جبران باسيل، عبّر عن رغبته بأن يكون "إطفائياً".
ليس هذا التعبير جديداً على الوزير ومسيرته. ففي الصالونات الديبلوماسية التي جلس فيها منذ أكثر من ثلاثة عقود، في الجامعة العربية وهيئاتها، لطالما كانت عبارة "الإطفاء" واردة في موجات الصراعات العربية -العربية المتلاحقة. وإنّ كان عجز الجامعة واضحاً في هذا المجال، فإنّ فشل حتّي واضح أيضاً في مسيرته الداخلية.

مرّت الأيام ودارت، احترقت ورقته في الوزارة، وبقيت النيران مشتعلة داخل البلاد، وخارجها. الإثنين، لملم حتّي ملفاته من مبنى الخارجية في الأشرفية. اجتمع بعدد من الموظفين بعد إعلان استقالته، وخرج من دون تصريح. كأنّه مسؤول أوروبي، فرنسي تحديداً، بهيئته واحتضانه للملفات والصمت الإعلامي الزائد عن حدّه. غادر قصر بسترس اليوم، بعد أن اعترف بخطئه. قبوله بالمنصب، كانت أساساً زلّة قدم قاصمة.

إبن المؤسسات
من يتابع نشأة حتّي في الحياة الديبلوماسية والعلاقات الخارجية، يعرف أنه ابن تجارب محلية لامعة. تأثّر بحكم عمره وعمله، بآخر التجارب الديبلوماسية اللبنانية تمكنّاً وثقلاً. سليمان فرنجية، إلياس سركيس، فيليب تقلا، كميل شمعون، فؤاد بطرس، كلها أسماء تشير إلى آخر المراحل القوية في الجمهورية الأولى، في السياسة والعلاقات الخارجية والمؤسسات. آخر أيام دولة الجمهورية اللبنانية قبل أن تدخل فترة الحرب الأهلية، التي لا موعد محدّد لانتهائها بعد. طبعت هذه التجارب سيرة حتّي الذي ظهر في مقابلة متلفزة أخيرة يوم الخميس الماضي معترفاً بالفشل والعجز الحكوميين. هو رجل صادق مع الآخرين، ومع نفسه أولاً. فـ"الصدق والوضوح أساس العمل الديبلوماسي"، سبق أن قال في مقابلة أخرى قبل أشهر. لكن فشل حتّي، يعني أيضاً فشل المؤسسات، فشل الحكومة، فشل السلطة، فشل العهد.

فشل حتّي
اقتصر نشاط حتّي طوال الأشهر التي أمضاها في وزارة الخارجية على المشاركة في اجتماعين طارئين بحثا ملف "صفقة القرن". الأول لوزراء الخارجية العرب ولمنظمة التعاون الإسلامي. إضافة إلى الاجتماع الدوري لجامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، أيضاً في آذار الماضي. وغير ذلك، لا شيء. مجرّد لقاءات جانبية مع الوزراء العرب لمحاولة فتح الطريق أمام الرئيس حسان دياب لزيارتها. وكلها باءت بالفشل. فالأخير مكروه داخلياً وخارجياً، ولا طائل من الجلوس مع رئيس حكومة حزب الله. وأضيف في سجلّ حتّي، الإخفاق اللبناني العام في ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ومواقف التأنيب التي صدرت قبل أسبوع عن الوزير الخارجية الفرنسي خلال زيارته إلى بيروت.

خطأ التوزير
أقدم حتّي على خطأ مميت يوم قَبِل حقيبته الوزارية في حكومة العهد الثالثة، برئاسة حسان دياب. مسيرته المحترمة التي لا تعكّرها شائبة، تحطّمت بقبول الجلوس على طاولة واحدة في حكومة مماثلة. حكومة حزب الله، حكومة جبران باسيل، (وبعضهم يقول حكومة جميل السيّد)، حكومة المستشارين.. كلها صفات لا تقرب من حتّي. حكومة تكنو-سياسية جاءت لإحباط ملايين اللبنانيين، لتكريسهم رهائن سلطة أحزاب ومصارف. شارك بها "آملاً" بالإصلاح والتغيير. إلا أنّ "جنين الأمل" أحبطه الواقع بحسب ما قال. حتى في بيان الاستقالة ظلّ ودوداً محافظاً على اللياقات والأصول الديبلوماسية. ابتلوه بمقعد وزاري في حكومة مماثلة، وهو قبل بالبلاء. وعليه دفع الثمن اللازم، مرّتين. مرّة من قبل معارضي السلطة والحكومة في الشارع، وأخرى من قبل "أرباب عمل الحكومة" التي وضعت استقالته في إطار سعي "الغرب" والأعداء للإطاحة بالحكومة. وبين النارين، وجد حتّي نفسه إطفائياً محاصراً بلا عتاد ولا هواء.

فتى الخارجية وأشيبها
في مقابلته التلفزيونية الأخيرة، احتدّ حتّي على محاوره حين سأله عن توجيهات يتلقّاها من وزير الخارجية السابق، "رئيس جمهورية الظلّ" النائب جبران باسيل. أكد أنه لا يسمح لأحد بتوجيهه ولا بفرض إملاءات عليه. وهذا الكلام، الواقعي، مدخل فعلي لمعرفة أسباب رئيسية وأساسية دفعته إلى الاستقالة. غير العجز الحكومي المحسوم في الإصلاح والإنقاذ، قد يكون حتّي وجد نفسه أمام تجربة مريرة ومذلّة؛ يحاول فيها فتى الخارجية السابق فرض نفسه وفريقه ورؤيته وقراراته عليه. لا يليق ذلك بحتّي، يعكّر بياض شيبته. خلف الوزير الأشيب باسيل، وكل إخفاقاته. دار يطفئ حريقاً تزيد الماء من اشتعاله. ملف حزب الله، قانون قيصر، صندوق النقد الدولي، العلاقة بالنظام السوري، العلاقة بدول الخليج العربي، وانبطاح الخارجية اللبنانية لتنفيذ أجندة حزب الله والدفاع عنه وتبرير كل أذيّة تصدر عنه في علاقات لبنان بالدول.

بلسان حتّي، دانت قمة وزراء الخارجية العرب في أيلول 2013، نظام الأسد. أطلّ حتّي يومها معلناً بيان الاجتماع بعد مجزرة الكيماوي في الغوطة، مؤكداً "تحميل النظام السوري المسؤولية التامة لاستخدام الأسلحة الكيماوية في الغوطة، والمطالبة بتقديم كافة المتورطين في هذه الجريمة النكراء لمحاكمات دولية عادلة أسوة بغيرهم من مجرمي الحروب".

غادر حتّي الوزارة إلى غير رجعة. تركها من دون أن نعرف إن كان بياض شعره شيب طبيعي أو نتيجته غرقه في رغوة طفايات الحرائق. لكن يبقى أقلّه أنّ أشيب الحكومة لا يصبغ شعره، ولا يتصنّع إنجازاً وفحولة.