تحالف الشيعية والعهد: استهداف السنّية واستنزافها

أحمد جابر
الثلاثاء   2020/08/25
اغتيال رفيق الحريري، كان إفصاحاً عن سياسة متشددة، سورية وإيرانية (Getty)

..ومع حكومة العهد العوني الثانية، يجتمع شمل الذين أضعفوا السنّية السياسية واستضعفوها، ويتابع أفرقاء الشمل هذا تبادل الأدوار، فيهجم طرف من الثنائية الشيعية موحياً بأنه يريد مخالفة المسار التهميشي الذي سلكه حيال السنية السياسية، ويستحضر طرف ماروني أحلام استعادة ما أضاعته كل المارونية من مواقع في الكيان، ويلعب طرف درزي لعبة إعادة "تثقيل" وزنه، بعد أن ضمر حجمه، واستنفدت مناوراته، ويستمر طرف ماروني طامح إلى احتلال موقع الزعامة، في تمايزه الجامح فئوياً، الناطق بلغة لبنانية تستعيد مفردات فرقة أكثر مما تستحضر لغة التقاء. الأطراف تلك ليست مجهولة، بل هي معروفة بأسماء من حضر منها ومن غاب، وعلى لائحة الأسماء نقرأ، حركة أمل، والعونية السياسية، والجنبلاطية الوليدية، والقوات اللبنانية، ومن وراء أولئك، حزب الله الممسك بالخيوط المتينة لإدارة اللعبة السياسية. يغيب عن المشهد، صاحب الشأن، أي السنية السياسية، فقد بات تقرير نفوذها، ورسم خريطة حضورها، وتحديد حجمها في التشكيلة السلطوية، من الأمور المناطة بالذين دخلوا في مسار إضعافها واستضعافها، منذ سنوات طوال.

أصل المسار
العودة بالذاكرة إلى أصل مباشرة الهجوم على السنية السياسية، تشير إلى أن مسار الهجوم أفتُتحَ مذ أعطى "الغرب" الهيمنة للنظام السوري على الوضع اللبناني. في ظل تلك الهيمنة، استهدف رئيس الحكومة الراحل، رفيق الحريري، بالإضعاف، فاتخذ ذلك شكل الإلحاق السياسي بالسياسة السورية العامة، في شقِّها الداخلي اللبناني، وفي شقّها المتعلق بضرورات النظام الخارجية. اغتيال رفيق الحريري، كان إفصاحاً عن سياسة متشددة، سورية وإيرانية، تقضي بمنع استعادة السنية السياسية لموارد ومصادر قوتها، لذلك كان قتل الرجل، الأقوى سنيّاً، ضرورياً لمنع تلك الاستعادة، لأن من شأن ذلك إنتاج عوامل قوّة وتحصين للدور السُني، ولنفوذه ضمن التشكيلة السلطوية.

تبدل رعاية الاستضعاف
سلك مسار الاستضعاف خطاً بيانياً صاعداً تولاه حلفاء النظام السوري من اللبنانيين، ومع تشظي الوضع السوري، بعد انفجار الحرب الأهلية الداخلية، انتقل ثقل الهيمنة إلى النفوذ الإيراني، شريك الأسد الأب، وحامي الأسد الإبن.

مع الانتقال هذا، تبدلت "حشوة" خطاب الهيمنة الدافعة، فصارت مذهبية بعد أن كانت قومية، وبديلاً من شعارية الاستبداد القومي، المشحون بلفظية العروبة والقومية والنضالية التحررية، سادت شعارية استبداد "نضالي"، استعار لهيمنته اللفظية القومية التحريرية ذاتها، وتجاوزها إلى "أممية مذهبية"، تسعى إلى توسيع وتوطيد نقاط ارتكازها داخل أوطان جديدة، بالتأسيس على مجموعات مختلفة، تحمل الهوية المذهبية نفسها.. كان هذا مساراً متصاعداً لهيمنة مذهبية صاعدة، وكان الصعود على حساب المذهبية السنية، فاتخذ الأمر شكل الاستهداف المباشر، في لبنان، وفي بلاد عربية أخرى، ولم تسلم من شظايا الاستهداف مذهبيات لبنانية عديدة، منها من مالأ السياسة الإيرانية والسورية، ومنها من خالفها وخاصمها أيضاً. لقد كانت الخلاصة الأساس من الهيمنة بوجهيها، أنه في الاستتباع لا مكان للتحالف مع أنداد، بل إن الخانة المفتوحة هي للأتباع، أتباع تتفاوت درجات أهميتهم، حسب الدور الموكل إلى كل منهم في سياق تعبيد المسارات الوطنية أمام الهيمنة الخارجية.

نسخة الاستضعاف الحالية
نسخة السنّية السياسية الحالية صارت نتيجة آنية لمسارٍ طويل، وهي تتويج لتراكم استضعاف صار ضعفاً واضحاً. هذا ما تظهره بنية اجتماع السنّية وإجماعاتها، فلا تراصف صفوف الالتئام متوفر، ولا بيان خطوط الإجماعات جاهز وجليّ السطور، أي أن الشروط المطلوبة لحضور السنّية ككيان سياسي نافذ وفاعل، تبددت تباعاً، وبدلاً من الالتفاف حول مركز نواة، يصنع اللُحمة ويشدّ عصبها، تسود حالة من التفكك والتشرذم، تغذيها النزعات الزعاماتية المناطقية، والمنافسة ضمن البيت العائلي الواحد. غياب المركز المرجعي، جعل ركيزة التفاوض مع "الطوائف الكريمة" واهنة، ولم تفلح الحريرية الجديدة في ابتكار عناصر قوة تخفِّف من وطأة الوهن، بل أضافت إلى ضعف حاضنتها الأهلية ضعفها الذاتي أيضاً. إذن، كيف تدير الحريرية مواجهة توازن لا تملك شروطها؟ وكيف تخوض معركة تعديل توازنات الحكم، والحفاظ على موقع الرئاسة الثالثة، وهي لا تملك شارعاً موحداً، ينبض لقولها ويستجيب لقرارها؟ هذا داخلياً، فإذا أضفنا إلى الداخل ارتباك وافتراق آراء الحاضنة العربية للسنّية السياسية، وقعنا على نجاح في تعظيم النفوذ، للشيعية السياسية التي تقف خلفها مرجعيتها الإيرانية بحزم وحماسة. في الخلاصة، تضافر على السنّية ضغط أوضاعها، وشبه تخلي مرجعيتها الخارجية، وانكفأت إلى وضعية دفاعية ركيكة، في مواجهة اندفاعة هجومية لكل الأفرقاء الذين يطلقون على نفوذها، ليصيبوا منه مقتلاً.

ما الذي يبقى
لقد انكفأت سنّية الحريرية التي حاولت، على طريقتها، أن تكون عابرة وطنياً، واستعاد البلد قسمته الأهلية، بحروف نافرة، وصارت الطائفية نصّاً، والمذهبية بياناً وتبييناً، لذلك ربما ستكون ورقة السنّية السياسية الأهم الآن، تأكيد سنيتها أكثر، أي أن ترفض بالجملة، ومن قبل كل مرجعياتها الدينية والدنيوية، حال "الدونية" الميثاقية التي صارت إليها، والتي يدفع كل المذهبيين في اتجاه إبقاء السنية فيها.

تبقى أسئلة من قبيل، هل هذا ممكن؟ ما الحسابات؟ وهل بات الاستدراك صعباً، أم متعذراً؟ ما الأسباب المعلنة؟ وما الأسباب المستترة؟

ثمة ظن أخير، بأن الشبكة التي ألقيت على السنية السياسية ليست من صنع خصومها حصراً، بل إن أبناءها أيضاً، شاركوا في صناعة خيوطها، وأحياناً بحماسة ومهارة واتقان.