أما وقد غسلوا أيديهم من دم بيروت

جهاد بزي
الثلاثاء   2020/08/11
كمن يتفقد إنجازاً عظيماً لا ينقصه إلا قص الشريط الأحمر (دالاتي ونهرا)

اختصرهم جميعاً ميشال عون، وهو يقف واضعاً يديه في جيبيه متفرجاً على الافتتاح الرسمي لخراب بيروت.
اختصرهم، حلفاء ومنافسين وخصوماً، وهو يبدو كمن يتفقد إنجازاً عظيماً لا ينقصه إلا قص الشريط الأحمر.
هم، جميعاً.

حسن نصر الله الذي لم يعنه من هذا كله إلا براءته وحزبه، وكل ما تبقى من المطلوب منه كان واجب العزاء لمدينته، وقد افتخر أنه يعرف عنها أقل بكثير مما يعرف عن حيفا المحتلة.

نبيه برّي، الذي لم نسمع له صوتاً وهو البليغ البليغ حين تدعو الحاجة الطائفية الشعبوية.

سعد الحريري، الذي كما في قصص الأطفال يعيش في مرآة نفسه، أميراً  تنتظره بيروت على حصانه وخلفه الرؤساء السابقون الفرسان بلا خيول ولا مضمون. سعد الذي يظن أن لبنان كان وما زال يدور حوله وحول عائلته.

وليد جنبلاط، وقد بات مملاً وهو يقف متنكراً بهيئة عادي منا وفينا، يشتم السياسيين معنا كأنه إذا وضع كمامة على وجهه السياسي لن نعود نعرفه.

سمير جعجع، الناسك الذي يحفر في الصخر باحثاً عن فرصة.

الباقون، الذين لا معنى لهم ولا جدوى، ومنهم "المسكين" حسان دياب، الذي بدا أن التعليق الوحيد على بيانيه الأول والأخير، وما بينهما، هو ذاك الكاذب المجامل الذي لا يفيد إلا عكسه: شكراً لمرورك العطر يا حسان.
كلهم، وضعهم ميشال عون في جيبيه وتلفت حوله، كمن يفتتح بفرح مقتل مدينة. ليس أن هؤلاء لا يستحون. هذا صار من البديهيات. ليس أنهم إنتهازيون. هذا أيضاً صار مكرساً وعتيقاً. أنهم أكثر إيغالاً في القعر.

فلنضع جانباً جماعة 17 تشرين. هذه جماعة من الأفراد غير المنتمين إلا إلى أفكار وردية. الجماعة التي اتهمت أقله بما يلي: الفوضوية، التطرف في النسوية والثقافوية والعنف والعنصرية، الحقد الطبقي الذي حطم، أكثر ما حطم، زجاج فندق وبضعة محلات في وسط بيروت والمصارف، الخطر الماسوني الساحق الماحق للمنظمات غير الحكومية، البذاءة وقلة الأخلاق، "الشذوذ" و"الإباحة" الجنسيين لطالبات وطلاب ثانويين وجامعيين، أُسقط عنهم حتى ولاءهم الساذج البسيط للحلم كما هو، خالياً من الطائفة وكبيرها، مجرداً إلا من أقل الطموح ببلد يستحق أن يعاش فيه.

فلنضعهم جانباً الأحرار الذين كان أولئك ليفضلوا لو أن انفجار بيروت وقع بينهم وارتاحوا منهم. هؤلاء العزل الذين جندت لهم أفعى الرؤوس الكثيرة ما استطاعته من عسكر وإعلام دنيء وجيوش وسائل تواصل اجتماعي قذرة لكسر صورتهم ولم ينكسروا. هؤلاء ليسوا متناً في هذه السطور لأنهم من اللحظة الأولى رفضوا كل المنظومة، وحاربوها، ودفعوا عيوناً وأرواحاً في وجهها، وما زالوا.

أفراد 17 تشرين ليسوا متناً هنا. المتن في مكان آخر، في جمهور محبذي الأكف في الجيوب. شعب الزعماء الطيب. هذا الذي يعيش ويموت من أجلهم. يرمي أولاده في الموت قرابين لهم حين يحاربون، ويستجدي منهم الوظيفة واللقمة والحماية والكرامة، ولا يعلم أنه هو الذي خلقهم. جمهورهم الذي بصدق يفديهم بالدم والروح وفلذات الأكباد على ما يفيد القول المتكلف. جمهورهم الذي يعاملهم كآلهة. يقعدهم في قلبه وفوق رأسه. يعطيهم أعلى مقامه وأفضل أمكنته، بلا سؤال ولا محاسبة ولا حتى شك بهم. يتذلل لهم ويعادي خصومهم وينسحق صادقاً أسفلهم، ومن أجلهم. يرفع أولادهم زعماء عليه بلا أدنى سؤال أو تشكيك بكفاءة. يأخذ أقوالهم حكماً منزلة من السماء ووجوهم أيقونات قديسين وأئمة.

جمهورهم الطيب هذا، الذي يعاملهم كما لو أنهم أطفاله الذين أفسدهم دلاله وحبه الكثيران، وحين كبروا والتهموا كل أخضر ويابس ولم يبق لهم ما يلقمون به جشعهم الخالص، قدم لهم جسده ليأكلوا لحمه ويستمروا ولو على فنائه. جمهورهم المسكين، هل هكذا يكافئونه؟ بانفجار نووي؟ هل هكذا علمتهم الأخلاق والكتب السماوية أن يعاملوا أمهاتهم وأباءهم، هؤلاء العاقون؟

هم كذلك. عاقون في حق ناسهم أولاً. وقد غسلوا أيديهم من دم بيروت. وبيروت ليست مدينة، بيروت فكرة. بيروت وهمٌ نظنه، نحن الذين غرقنا في بحرها، ملاذاً نلجأ إلى ألوانه حين لا يبقى من لبنان إلا تنافر الأضداد والاتهامات، الأبيض والأسود، العميل والمقاوم، العروبة والغرب، الشيوعية والأمبريالية. بيروت قوس قزح الخيارات والاحتمالات. بيروت التي انقسمت وتقاتل الجميع من جنب فيها إلى جنب، وظلوا للمفارقة أكثر رفعة ونبلاً من الحاليين. بيروت التي خرجت من الاجتياح الإسرائيلي محملة بالرمز والقصائد والأغاني والتقبل والتنوع وتبني كل مختلف، بيروت هذه لم يمر عليها من قبل كهؤلاء، يقودهم الحقد إلى الفرجة عليها ينفجر قلبها، ويتلفتون بريئين من دمها العالق على وجوههم دليلا. ويبحثون عن أقرب وسيلة للاستثمار في هذا الدم المراق، وهذا الخراب العميم.

لكن لا. ليسوع المسيح صليبه الذي لن يمحى. وأقل ما نستطيعه لنا، ولبيروت، سحابتها الحمراء الداكنة، وانفجارها الذي سيبقى ندباً على خدها، كلما رأيناه في المرآة، تذكرّنا.