شبح كورونا: يا لهشاشة البشرية وقيمها الكبرى السعيدة

محمد أبي سمرا
الأربعاء   2020/03/11
أكان ينقصنا أن يتجول بيننا ذلك الشبح العالمي لنزداد عزلةً وخواءً وكآبةً وبؤساً وإفلاساً؟ (Getty)
بين كل شخصين، صديقين أو زميلين أو قريبين، أو غريبين لا يعرف أحدهما الآخر، يتبادلان لقاءاتٍ أليفة أو عابرة، نظراتٍ أو كلمات قليلة أو كثيرة، في مكان ما على هذا الكوكب، صار يحضر ويقيم شبحٌ مخيف غامض. بل من الضروري أن يحضر بينهما، حفاظاً على سلامة كل منهما الشخصية وسلامة الآخرين والعالم. والشبح هذا، على قدر ما هو كامن، مكتوم ومجهول، يجب استحضاره على نحو وسواسيّ وسرسابيّ محموم، جسمانياً وسلوكياً، حفاظاً على السلامة الشخصية والعامة.

هكذا تقول وتكرر وسائل الإعلام والتواصل العالمية والمحلية، اللاغطة باسم ذلك الشبح على مدار الساعة، فيما هو يتكاثر ويتناسل وبائياً في اجتيازه البلدان والحدود والقارات بسرعة قياسية. وصار يستحيل تجنّب زيارته المنامات أو الكوابيس الليلية، وأحلام اليقظة النهارية الهاربة.

انقلاب أخلاقي وسلوكي
وهذا الشبح العالمي، السّري والخفي والكامن في الأجسام، والمنتشر على غلاف الأشياء وفي المسافات بين الأجسام وفي تلامسها البسيط والسريع، قلبَ فجأةً رأساً على عقب القيمَ والمعاييرَ الأخلاقية والسلوكية التي تدعو إليها البشرية، تحضُّ عليها، تحتفي وتتغنى بها، باعتبارها المكتسبات الأرقى والأفضل لأزمنة الحداثة وما بعد الحداثة في العالم كله.

فجأة، وفي أيامٍ معدودة، اكتشفتْ البشرية هشاشتها وهشاشة قيمها الراسخة: التعارف والتبادل والاختلاط، التسامح وإزالة الحدود، الذهاب إلى الحدود القصوى في الاتصال والتواصل، باعتبارها كلها من ثمار الطور الجديد من الحداثة: العولمة.

فجأة أصيب هذا كله في جهازه العصبي المركزي، ولم يبقَ منه سوى وسائل الإعلام والتواصل اللاغطة باسم ذلك الشبح المخيف والتحذير منه، والحضّ على اتباع وصفاتٍ تكبحه وتقلّل من مخاطر تجواله المتسارع بين البلدان والقارات والمناطق والأفراد:

القليل والضروري من التجمعات واللقاءات في دوائر الحياة اليومية كلها. الحدّ والحذر من التواصل والإتصال الجسماني. فلا لزوم لمصافحاتٍ وملامساتٍ وقُبل. وفي حال المصافحة والملامسة بين شخصين، أو ملامسة أشياء في أي مكان عام، لا بد من الإسراع إلى محو آثارها بالماء والصابون والمعقمات. أما تبادل الكلام فعن بعدٍ أو مسافة، والأفضل من خلف كمامات على الأفواه والأنوف.

المدارس والجامعات والمسارح ودور السينما والمعارض والمتاحف وأماكن الترفيه والمرابع الليلية والمطاعم، أقفل معظمها خوفاً من ذلك الشبح الذي يتجول فيها ويلسعنا، إذا امتلأت بروادها. ولا سفر وارتياد مطارات، إلا في حال الضرورة القصوى، لأنها الأكثر عرضة للتخالط العابر وتجوال الشبح الوبائي بين العابرين. أما السياحة والاستجمام فيجب الإقلاع عنهما تماماً، لئلا يفترسنا ذلك الشبح ويحوّل متعتنا السياحية إلى عكسها، بدل أن نتركه سائحاً وحيداً يتجول مستوحشاً ويموت في الأماكن الخالية المقفرة.

الخوف السائل
هكذا تسود في عالمنا اليوم، وإلى وقت أو أجل غير معلوم، قيم التّجنب والعزلة والاعتزال والحجْر والتعقيم والتزام المنازل... وفي هذه الحال لا بد من الإكثار من الوحدة والتوحد، والنوم المديد من يستطيع إليه سبيلاً. ووحدها أجهزة الإعلام والصحة والإسعاف والهاتف والتواصل الالكتروني تعمل بقوة ونشاط في مكافحة الشبح الوبائي العالمي، وهي نافذتنا الوحيدة تقريباً على العالم.


فيا لهشاشة البشرية وقيمها وصنائعها الكبرى على هذا الكوكب.


وكان المفكر الألماني أولرش بيك قد أنذر البشرية من أشباح ما بعد الحداثة وأشباح العولمة التي تترصدها في كتاب له عنوانه "مجتمع المخاطرة"، مجتمع اللايقين والخوف من المجهول الذي حاولت الحداثة، بل ادّعت السيطرة عليه بعقلانيتها المحمومة ويقينياتها الحتمية السعيدة. أما زيجمونت باومن فوضع لزمن ما بعد الحداثة مصنفاتٍ - كتباً عدة، القاسم المشترك بينها هو السّيولة أو السيلان اللذان يكتنفان النشاط البشري كله والعلاقات الإنسانية كلها: "الخوف السائل"، "الحداثة السائلة"، "الحب السائل"، العمل السائل والزمن السائل والإعلام السائل. والسيولة هنا على معنى أن العالم والاجتماع والعلاقات البشرية فقدت تماسكها وصارت نهباً لآنية فردانية متقطعة، منفلتة وبلا حدود.

والشبح الجديد هذا الذي يتجول بيننا متربّصاً بكل منا، ويروعنا في كل حركة ولحظة، يبدو أنه ابن متأخر زمناً لأحوال العالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية (العولمة)، أو علامة وبائيّة من علاماتها التي تتلاحق، وتطوي كل منها سابقاتها:

الإرهاب، والفوبيا المنبعثة من الإرهاب. الحروب الشعوبية في الشرق الأوسط، وتغيير خرائطه الديموغرافية. وتدفق اللاجئين بين بلدانه التي لم تعد بلداناً، وتقترب من أن تصير مخيّمات للتائهين واللاجئين. وتهديد أسياد الشرق الأوسط الدمويين العالمَ باللاجئين، الذين يتدفقون إلى أوروبا ويرعبون شعوبها وساستها الشعبويين وغير الشعبويين. فتتزايد فيها وفي العالم كله تيارات الانكفاء والعزلة والانفصال، المفضية إلى عنصرية سياسية واجتماعية واقتصادية، جماعية وفردية قاتلة وانتحارية. كأن يتطوع أحدهم لقتل عشرات مغفلين لا يعرفهم ولا يعرفونه، فيحصدهم هستيرياً ومشهدياً، في أي مكان وعلى نحو غير متوقع، ثم ينتحر.

وعن هذا كله ينجم خوف ويتفشى رعب جماعيان وفرديان، كامنان ولا واعيان، يترجمان إلى شعبوية ودعوات جماهيرية إلى عزلات سياسية واجتماعية واقتصادية.  

شبح الخواء اللبناني
هنا، في لبنان البلد الصغير والميكروسكوبي على هذا الكوكب، بلد النظام السياسي المتحجر والسائل في وقت واحد، وبلد الدولة السائلة والموزعة إقطاعات أو محميات لزعماء متحجرين يتوارثون الزعامة والسلطة والضغائن والأحقاد السائلة في الجماعات وبين الجماعات، وبلد الديون والإفلاسات المالية والاقتصادية والسياسية الوبائية... هل كان ينقصنا أن يتجول بيننا ذلك الشبح العالمي لنسترسل في تقاذفه، ونزداد عزلةً وخواءً وكآبةً وبؤساً وإفلاساً؟

لكن مهلاً: ألا قد يكون هذا الشبح منقذاً لأسياد الخديعة النفطية، وأسياد ضغائن التعيينات القضائية والإدارية، وأسياد المغانم الناضبة، وأقنِعتهم في الحكومة والوزارات، من الموهوبين والموهوبات كالمذيعين والمذيعات في تسميع البيانات الإنشائية الخاوية؟