نعمة النفط ومصيبة "العهد"

يوسف بزي
الجمعة   2020/02/28
راح يتخيل كيف سيكتب التاريخ أخيراً سطراً مذهّباً عن هذا "العهد" (دالاتي ونهرا)

أوحى لنا ميشال عون أنه لولا عودته عام 2005 لما تنعمنا اليوم بالاكتشافات النفطية وآبارها. أوحى لنا أيضاً أنه لولا عبقرية صهره ومستشاريه ووزرائه لما كان لنا غاز في باطن الأرض. أوحى لنا عون أنه لولا التيار البرتقالي لما وجدت تلك الثروة المأمولة هناك تحت سطح البحر. بل هو أشعرنا أنه لولا وجوده في سدة الرئاسة لما استطاع أحد حفر بئر أصلاً.

بدا ذلك أعجوبة، بالمعنى الديني للكلمة، معجزة خارقة للطبيعة، إنجازاً جباراً لا يستطيعه سوى "مخلّص" وقائد أسطوري وتاريخي. بلا مبالغة، لقد أشعرنا أن النفط هبة ميشال عون للبنان.

قال بما يوحي أن كل "تضحياته" ومعاركه وعداواته، وخروجه وعودته وملحمته السياسية، إنما من أجل هذا المشروع، كأنما كان هذا سره الدفين، سر كل ما فعله وما واجهه وقرره. سرٌ مخبأ في سريرته، حافظاً إياه ككنز مطمور، بانتظار اليوم الذي سيأمن فيه نبشه ليوزعه ثروة خلاصية ونعمة إلهية على "الشعب العظيم". 

خرج علينا الرئيس في خطبة انتصارية، لطالما حلم بها "الجنرال".. وكانت الهزائم المتتالية طوال سيرته تحرمه منها. خطبة كرس حياته من أجل أن تأتي لحظتها الموعودة. حاول المستحيل إلى حد الدمار، وجازف كثيراً إلى حد تمديد زمن الحرب سنوات إضافية، وخاض مغامرات إلى حد المصائب والضحايا الذين لا عد لهم، و"ناضل" بعناد إلى حد مؤذ أعطب البلاد مرات ومرات.. كل ذلك من أجل هكذا خطبة، هي ولا شك - بالنسبة له ولمريديه – قد تكون أهم بكثير من خطاب القسم الرئاسي.

يحق لميشال عون هذا الزهو، وهذا الاحتفاء بالنفس، وهذه البهجة الغامرة التي أمدته على الأرجح بطاقة جديدة تمنحه فتوة في هذا العمر المديد. يحق له كل هذا الفرح الذي ينضح من عيونه، طالما أنه راح يتخيل كيف سيكتب التاريخ أخيراً سطراً مذهّباً عن هذا "العهد"، أو بالأحرى جملة "ناصعة" عن هذا الرئيس. هكذا يمكنه أن يتحرر الآن من أسباب الأرق المضني الذي يعانيه منذ العام 1988. هو الذي أمضى حياته كلها كي لا يكون رجلاً عادياً، لا كقائد للجيش ولا كرئيس حكومة عسكرية ولا كسياسي معارض منفي ولا كرئيس تيار ولا كنائب ولا كرئيس جمهورية يشبه أي رئيس "عابر". بذل عمره كله كي يراه الآخرون استثنائياً في كل أدواره، "شخصية تاريخية عظيمة"، وفق ما نذر نفسه لأجله، وفق إيمانه بذاته، محاطاً بعظمة وهالة تاريخ.


إذاً، يمكنه الآن أن يتخلص من أرقه المديد. فأخيراً لديه حقاً ما يقارع به بشارة الخوري (الاستقلال)، كميل شمعون (الازدهار)، فؤاد شهاب (الحداثة)، بشير الجميل (القيادة).. لا، بل أخيراً لديه ما يشفيه من تبرمه القديم من أولئك الذين "أنجزوا" أو "انتصروا" أو أفلحوا في تحقيق ما يدخلهم التاريخ، رفيق الحريري على سبيل المثال.

يوم الأربعاء 26 شباط، كانت وقفته الواثقة أمام الشاشة، بأناقة ديكورية تمثلت في صف من الأعلام اللبنانية الشديدة الترتيب والأبهة، وبخيلاء شخصية جعلته مبتسماً طوال الوقت: لقد بدأ حفر البئر!

الرئيس عون السيء الحظ مع الرئاسة، التي ظلت متمنعة عليه نحو ثلاثة عقود، ما أن دخل قصر بعبداً رئيساً للجمهورية حتى شعر أن الزمن والقدر يعاكسانه. فـ"عهده" هذا من الصعب وصفه بأي عبارة جذلة، من الصعب مدح يوم ما فيه. ثلاث سنوات وبضعة أشهر كالحة ومأسوية على نحو يشعرنا أن ثمة نحساً يعاكس سيرة هذا الرئيس. بل أن عهد ميشال عون – بالأرقام – قد يكون الأسوأ مالياً واقتصادياً، منذ تأسيس الكيان. الحقائق المريرة في سنوات رئاسته تناقض تصوره عن نفسه، تهشِّم ما يتخيله مريدوه فيه، تحطّم تلك "العظمة" التي يظنها بذاته ويظنها أتباعه به، تبدد تلك الهالة شبه الدينية لوجوده كمخلص وكقائد للشعب المختار.. ستكون مأساة من النوع الخالي من البطولة، مأساة مغمسة بالفشل والعجز والضعف.

وكان لا بد من تلك السفينة، من ذاك المثقاب الجبار.. لا بد من بئر. لقد جاء الخلاص من البحر.


لكن، ثمة شيئاً مريباً، شيئأ ناقصاً، شيئاً ينغص هذا المهرجان. إذ ليس من العادة أن تعمد دول أو أن يبادر رئيس إلى هكذا خطبة وإعلان لمجرد أن يبدأ حفر بئر. فعلى الأغلب، يكون ذلك حين يبدأ الغاز أو البترول بالتدفق، حين يبدأ بالإنسياب في الأنابيب نحو التصدير. حينها فقط يمكن القول: ها نحن دخلنا في نادي الدول النفطية.

مع ذلك، يمكننا أن نتفهم استعجال الرئيس وباقي أركان السلطة. فبلد مفلس إلى هذا الحد وعهد كارثي إلى درجة الثورة ودولة فاشلة إلى مستوى تسليمها لحزب مسلح وحكومة بائسة إلى سوية ترئيسها لحسان دياب.. لا بد أن تتلهف لقطرة بترولية، أو تتشمم عبق نفثة غاز. بل ويمكننا أن نتفهم دوافع الرئيس ذاته بنرجسيته المشروعة، في هكذا استعجال. إذ لا يعقل أن ينتظر ثلاث سنوات أو أربع حتى يصبح الغاز والبترول "حقيقة اقتصادية". فهذا يتخطى زمن عهده.. وربما يتخطى قدرة لبنان وقدرتنا جميعاً كلبنانيين على الصمود أو البقاء حتى ذاك الحين.