"هوف" مهندس المفاوضات بين لبنان وإسرائيل يروي القصة الكاملة

سامي خليفة
الإثنين   2020/12/07
قال السفير الإسرائيلي: لسنا معتادين على تسوية نحصل بموجبها فقط على 45 في المئة من أي شيء (Getty)

في وقتٍ لا تزال مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل معلقةً، وسط أجواءٍ ضبابية، عاد الحلّ الذي يعرف بخطّ هوف إلى الواجهة، بعدما نشر السَفير الأميركي السَابقِ فريديرك هوف مقالةً في مجلة "نيوزلاين" الأميركية، روى فيها رحلة وساطته بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البحرية خلال الفترة الممتدة بين العامين 2010 و2012، وصولاً إلى رسم ما يُعرف بـ"خط هوف".

اختيار هوف وسيطاً
حاول هوف بصفته مسؤولاً في وزارة الخارجية الأميركية منذ عام 2010 وحتى 2012، التوسط في اتفاقية تشمل لبنان وإسرائيل، من شأنها حل نزاع بحري خطير. فالدولتان المتجاورتان، من الناحية القانونية (وأحياناً في الواقع) في حالة حرب منذ عام 1948، وقد رسمتا خطوطاً مختلفة في البحر الأبيض المتوسط تضعان فيها مطالبات متناقضة للمناطق الاقتصادية الخالصة، حيث يمكن لكل منهما ضخ الهيدروكربونات (الغاز والنفط) من أسفل قاع البحر. وكانت نتيجة هذه الادعاءات المتضاربة 882 كيلومتراً مربعاً من المياه المالحة المتنازع عليها.

يقول هوف أنه عندما تولى مهمة الوساطة، كان مشغولاً بشكلٍ كامل بمحاولة التوسط من أجل السلام بين سوريا وإسرائيل. وبينما كانت الوساطة الإسرائيلية-السورية نشطة، قام برحلات مكوكية بين لبنان وإسرائيل في محاولة للحفاظ على السلام، في أعقاب حوادث العنف على طول خط الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 من لبنان، المعروف بـ"الخط الأزرق". مضيفاً أنه قام بذلك اعتقاداً منه بأن القتال الإسرائيلي اللبناني لن يسهل، في النهاية، عملية السلام بين سوريا وإسرائيل.

أدرك هوف أن المسوحات الجيولوجية أشارت إلى إمكانية وجود الهيدروكربونات - الغاز الطبيعي بشكل أساسي - بكمياتٍ كبيرة قبالة شواطئ لبنان وإسرائيل. وهنا يقول: "كنتُ أعلم أن إسرائيل كانت بالفعل تستكشف وتستغل هذه الموارد. لكن في لبنان، لم يُترجم الحديث السياسي عن الكنز المراد حصاده إلى ترخيص للاستكشاف. ومع ذلك، لم أكن على درايةٍ بأزمة بحرية تختمر حتى اتصلت بي في أواخر عام 2010، سفيرة الولايات المتحدة في لبنان، مورا كونيلي. ووصفت الأخطار المحتملة بوضوحٍ شديد".

حثت السفيرة كونيلي هوف على مساعدة الجانبين في التوصل إلى حل وسط: خط واحد متفق عليه يقسم المناطق الاقتصادية الخالصة لكل منهما. خط واحد يرفعه كل منهما بشكل منفصل إلى الأمم المتحدة، وتالياً تجنب التعقيد في مطالبة طرفين معاديين رسمياً التوقيع على الوثيقة نفسها. واستشهدت بأعمال منشورة تركز على قضايا الحدود الإسرائيلية- اللبنانية. وكانت مخاوف السفيرة تتمحور حول احتمال حدوث عنف عرضي بين إسرائيل وحزب الله على الأرض، أو احتمال أن تتجنب شركات الطاقة الدولية استثمار الوقت والطاقة في الهيدروكربونات اللبنانية. والجدير ذكره أنه في تلك المرحلة، كانت إسرائيل تستخرج بالفعل الغاز الطبيعي في منطقة متنازع عليها. وكان لبنان على الجانب المقابل في حاجة ماسة إلى عائدات النفط والغاز، لكن احتمالية المواجهة مع إسرائيل المتفوقة عسكرياً كان يفرض الحذر بين شركات الطاقة العالمية.

رايموند ميليفسكي
استطاعت كونيلي إقناع الجانب اللبناني القبول بهوف كوسيط، أما على الجانب الإسرائيلي فاعتمد الأميركيون على سفيرهم جيم كانينغهام لإقناع المسؤولين الإسرائيليين. وهكذا بدأت المفاوضات باتفاق الجانبين على أن الجهد الأميركي سيكون على مستوى منخفض، وغير رسمي بقدر الإمكان. لاستكشاف ما إذا كان من الممكن للطرفين قبول الخط نفسه.

تلخّصت المهمة الثانية بتشكيل فريق يلم بالنزاعات البحرية وكيفية تسويتها. ونجح هوف في مسعاه بتجنيد الخبير الأميركي الرائد في جميع أنواع الحدود البرية والبحرية رايموند ميليفسكي. والذي يصفه قائلاً:  "ميليفسكي كان الشخصية التي أوصلت هذه الوساطة إلى شفا النجاح. وإذا كان باستطاعة لبنان وإسرائيل اليوم إكمال العمل الذي علّقاه في العام 2012، فإنّ الطرفين مدينان بالكثير لمعرفة الراحل رايموند ميليفسكي وإبداعه ولياقته".

أما المهمة الثالثة فتمحورت، حسب هوف، حول نسج علاقات ثقة مع كلا الجانبين. وهذا يعني القيام برحلات متعددة إلى تل أبيب وبيروت، والاستماع بعناية لمواقف الجانبين ومنطقهما، والتأكد من أن كل منهما يفهم دور الوسيط، منوهاً بدور ميليفسكي، الذي حظي إتقانه لرسم الخرائط والقانون الدولي الذي يحكم الدعاوى البحرية باحترام وإعجاب الجميع.

الجانب اللبناني
واستطراداً، لفّت هوف أنّ الوساطة مع الجانب اللبناني بدأت عندما تولى سعد الحريري رئاسة الوزراء، مشيراً إلى أنّ الأخير عيّن مستشاره للسياسة الخارجية والسفير اللبناني السابق إلى الولايات المتحدة الراحل محمد شطح ليكون أرفع جهة اتصال حكومية. وعن شطح، كتب هوف: "كان محمد ودوداً. لكنه كان صارماً في إصراره على أنّ لبنان سيدافع عن حقوقه".

وأضاف هوف أن شطح شاطره وجهة نظره القائلة بأنّ المنظومة السياسية في لبنان ستسعى إلى سرقة عائدات النفط والغاز المستقبلية مفضلاً اتباع "مقاربة ألاسكا" التي يتم بموجبها توزيع الواردات على كل لبناني بالغ مباشرة. وتابع "ما لا شك فيه أنّ طريقة التفكير هذه أفضت إلى اغتيال شطح في العام 2013".

وبالعودة في الذاكرة إلى فترة تولي الرئيس نجيب ميقاتي رئاسة الحكومة في العام 2011 بعد الحريري، كتب هوف: "كان نظيري اللبناني الأرفع والأساسي هو جو عيسى الخوري. ومثلي، لم يكن جو خبيراً في الخلافات البحرية. ولكنه سرعان ما أصبح كذلك، وكان يحظى بثقة رئيس الحكومة الكاملة. وأثبت أنّه محاور رائع حتى بلغت الوساطة خواتيمها".

كما تناول هوف دور اللواء الركن عبد الرحمن شحيتلي، فوصفه بـ"الضابط بالغ الكفاءة"، مشيراً إلى أن نائب رئيس الأركان للتخطيط، العميد الركن البحري جوزيف سركيس، كان أحد أكثر الأفراد تميّزاً على المستوى المهني بين الذين التقاهم خلال الوساطة. مشدداً أنه خلال لقاءاتهما الكثيرة في المقر الرئيس للجيش اللبناني، واصل تميّز الفريق اللبناني مهنياً وعلمياً وقانونياً ودبلوماسياً بإثارة إعجاب الفريق الأميركي.

وفي سياق الحديث عن دور حزب الله، أشار هوف أن جهودهم للبدء في المفاوضات لم تكن لتنجح لو عارضها الحزب، إلى حين ألقى أمين عام حزب الله حسن نصرالله حينذاك، خطاباً جاء فيه أن على الحكومة اللبنانية ممارسة كل الوسائل الدبلوماسية والقانونية لحماية حقوقها في المنطقة الاقتصادية الخالصة، من دون أن يهدد باللجوء إلى العنف.

ويؤكد هوف أن الانطباع نفسه ساد على الجانب الإسرائيلي، حيث كان يقود الفريق نجم دبلوماسي مخضرم، وهو السفير عوديد عيران، الذي عمل سفيراً لإسرائيل في الأردن والاتحاد الأوروبي. وكان وافداً جديداً إلى العالم السحري للنزاعات البحرية. ومع ذلك فقد كان هذا الأخير قادراً على الاعتماد على عمل الخبراء الرائعين لتوجيهه، ومنهم حاييم سريبرو (المدير العام للمسح في إسرائيل)، وهو شخص يتحدث لغة ميليفسكي نفسها. إلى جانب فريق قانوني لامع تحت تصرفه في وزارة الخارجية.

الثقة المفقودة
عند الحديث مجدداً عن ميليفسكي، يقول هوف أن هذا الخبير الأميركي علّمه أن ما من صيغة واحدة تناسب الجميع لترسيم الحدود البحرية المتنازع عليها، بل هناك مبادئ وإجراءات يُنظر إليها على أنها مناسبة، من ناحية رسم الخرائط والقانون الدولي. كما هناك أيضاً متغيرات، غالباً ما يكون لها علاقة بصلاحية ووزن النقاط المرجعية الأرضية على جانبيّ الحدود (في هذه الحالة الخط الأزرق) التي تستخدم مسافات متساوية لعرض خط.

وحسب هوف دائماً، أنتج لبنان وإسرائيل خطاً يمتد من حيث يلتقي البلدان على الصخور المغسولة بالأمواج في رأس الناقورة، على بعد 70 ميلاً تقريباً من البحر، ويلتقي بخط المطالبة العمودي الذي أنشأته جمهورية قبرص وقبلته كل من إسرائيل ولبنان. لقد فعل لبنان ما في وسعه، ضمن المعايير العرفية المقبولة، لجعل هذا الخط ينحني جنوباً، بحيث يلمس تقريباً الحقول الاستكشافية الإسرائيلية. بدورها، فعلت إسرائيل ما في وسعها، لجعل خطها ينحرف نحو الشمال. وبذلك بقي 882 كيلومتراً مربعاً من البحر الأبيض المتوسط ​​محل نزاع.

بعد كل شيء، لم تكن هناك محادثات مباشرة بين الطرفين. مرّت المحادثات من خلال الوسطاء، وكان كل جانب يميل بشدة إلى الاعتقاد بأن الآخر يريد عبر المفاوضات ببساطة سرقة أكبر قدر ممكن؛ وأن الجانب الآخر قد رسم بشكل فظ خطاً تعسفياً يهدف إلى تعظيم المكاسب على حسابه. وفي هذا الصدد، لعب ميليفسكي دوراً أساسياً في إقناع الخبراء الإسرائيليين أنّ نظراءهم اللبنانيين ليسوا لصوصاً نهمين، وتمّكن من إقناع الخبراء اللبنانيين بأن إسرائيل ليست عازمة على سرقة الموارد الطبيعية اللبنانية.

لم يتزحزح اللبنانيون والإسرائيليون في اتجاه التنازل والتسوية. وكانا يأملان في أن يصدر الحكم الأميركي بالكامل لصالح أي منهما، لذلك يضيف هوف: "لم أكن على وشك أن أحكم لهذا الطرف أو ذاك. لم يكن هذا تحكيماً إجبارياً، وحتى لو كان كذلك، فإن تميز العروض التقديمية من كلا الجانبين أقنعني أن هذه ليست حالة بسيطة من الصواب والخطأ. على العكس من ذلك، كنتُ حائراً في ما ينبغي أن أقترحه لأنّ الجانبين دافعا عن قضيتيهما برصانة".

رسم خط هوف
لفترة وجيزة حاول هوف طرح فكرة تجنب رسم خط وسط، لتحويل المنطقة المتنازع عليها بالكامل إلى كيان "موحد" يتفق فيها الطرفان على شركة طاقة واحدة لاستخراج الهيدروكربونات وتسويقها، وإرسال مدفوعات متساوية لكل منهما. ليكتشف لاحقاً أن ما طرحه هو نسخة خيالية وفقاً لمبدأ 50-50، ويتطلب اتفاقاً معقداً.

وراوياً مسار التوصل إلى "خط هوف"، أردف قائلاً: "في اجتماع الفريق في واشنطن، تطوع ميليفسكي بفكرة مذهلة إذ قال لي: كما تعلم يا فريد، نحن الأميركيون لدينا الكثير من الخبرة في حل النزاعات من هذا النوع سلمياً، خصوصاً في منطقة البحر الكاريبي. عندما تكون السواحل المعنية غير معقدة نسبياً نستخدم نسخة مبسطة جداً متساوية البعد لما فعله الإسرائيليون واللبنانيون. فلماذا لا نطبق الأمر نفسه؟ لماذا لا تتظاهر الولايات المتحدة بأنّها لبنان، في حين تلعب المكسيك دور إسرائيل، أو أن تكون الولايات المتحدة إسرائيل، أمّا كندا فتكون لبنان".

أُعجب هوف بنهج ميليفسكي باعتباره بديلاً رائعاً لقضاء سنوات مساومة مع الإسرائيليين واللبنانيين، على مساحة 882 كيلومتراً مربعاً من البحر. وتابع شارحاً "قاد ميليفسكي عملية إجراء الحسابات ورسم خطاً. لتجنّب إثارة الجدل حول الطرف الذي يمتلك الصخور عند قاعدة منحدر رأس الناقورة وهي منطقة لم تُمسح مطلقاً لأغراض ترسيم الحدود أو خط الهدنة أو الخط الأزرق، بدأ برسم خطه على بعد ثلاثة أميال من الشاطئ. وهكذا امتد بين الخطوط اللبنانية والإسرائيلية التي تأرجحت بالطبع جنوباً وشمالاً على التوالي. تقاطع خط ميليفسكي مع الخط القبرصي بنسبة 60 في المئة نزولاً من التقاطع الإسرائيلي-القبرصي وصولاً إلى التقاطع اللبناني-القبرصي، تاركاً بذلك نسبة تزيد عن 55 في المئة بقليل للجانب اللبناني".

الرد اللبناني والإسرائيلي
بعد كل هذه الجهود المضنية، أبلغ هوف الأطراف من خلال سفراء الولايات المتحدة بأنهم مستعدون لتقديم اقتراح حل وسط. وتم إقناع السفارة الأميركية في لندن باستضافة الوفود لعقد اجتماعات مع اللبنانيين والإسرائيليين، وعُقدت الاجتماعات في 23 و24 نيسان من العام 2012.

أطلع هوف الجانب اللبناني أولاً، معلقاً بالقول: "أنصتَ جو وفريقه بعناية، وطرحوا الكثير من الأسئلة (تولى ميليفكسي الإجابة على معظمها)، لقد بذلتُ قصارى جهدي للإشادة بالكفاءة المهنية لفريق الجيش اللبناني، ولشكر جو وزملائه على كل المجاملات التي قدموها لنا. لكنني ركزتُ بشدة على ما أود أن أقوله للإسرائيليين: تطبيق المنهجية الأميركية القياسية لحل هذا النزاع كان أفضل ما يمكننا فعله، والحد الأقصى لما يمكن أن نقدمه. سيتلقى كلا الجانبين حزم بيانات متطابقة توضح بالتفصيل المنهجية التي يستخدمها الخبراء الأميركيون. أعرب جو وزملاؤه عن تقديرهم لمنطق ما فعلناه، وبدوا محبطين بعض الشيء، وذلك بسبب عدم حصول الجانب اللبناني على نسبة 100 في المئة. وأكد لي جو أنه سيطلع رئيس الوزراء قريباً على هذه الصيغة، مقترحاً أن أخطط لزيارة قريبة المدى إلى بيروت".

فيما يتعلق بالجانب الإسرائيلي، قال هوف إنّه لم يكن أكثر حماسة من الجانب اللبناني. إذ تم استجواب ميليفسكي بشكل مكثفٍ من قبل الخبراء الإسرائيليين. وكان الإسرائيليون قد اشتكوا من قبل من نقاط مرجعية للأرض اختارها لبنان لأغراض متساوية البعد. خلال النقاش استطاع ميليفسكي أن يثبت صحة المراجع اللبنانية، وشدد على أحد أهم محاور النهج الأميركي في رسم الخط: "قبلنا بمرجعيات إسرائيل في إسرائيل ولبنان في لبنان. لقد منحنا كل وزن كامل في إنشاء خط متساوي الأبعاد؛ شيء لم يفعله اللبنانيون فيما يتعلق باختيار إسرائيل جزيرة قبالة سواحل حيفا كنقطة مرجعية".

كما فعل اللبنانيون، عبّر الإسرائيليون عن احترامهم على مضض للنهج الأميركي. وينقل هوف عن السفير الإسرائيلي عوديد عيران قوله: "سأوجز للقيادة قريباً، وسأتحلى بالإيجابية قدر المستطاع. لكن، كما تعلم، لسنا معتادين على تسوية نحصل بموجبها على 45 في المئة من أي شيء".

التسويف اللبناني
تلقت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في أيار 2012 رسالة من وزير الخارجية الإسرائيلي تُفيد باستعداد إسرائيل لقبول خط التسوية بشرط قبول لبنان. ليتبيّن بعدها أن قبول لبنان سيكون إشكالياً. فقد أبلغ الرئيس ميقاتي هوف نيته القبول بعد إجماع الحكومة، إلاّ أنّ المسألة لم تُطرح للتصويت في مجلس الوزراء. كما أن ميقاتي طلب منه إحاطة المعارضة برئاسة الحريري. ويتابع هوف شارحاً "لم تكن هناك اعتراضات جوهرية غير إصرار رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة على تولي الأمم المتحدة جهود الوساطة. شرحتُ قدر المستطاع أن قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) ليس لها دور في الشؤون البحرية خارج البحر الإقليمي البالغ 12 ميلاً بحرياً، وأن الممثل الخاص للأمين العام في لبنان كان يقوم بالفعل بجولات الإشادة بالحل الوسط المقترح. في النهاية، التزمت المعارضة اللبنانية بالصمت المطبق بشأن التسوية المقترحة".

كان لدى رئيس الوزراء ميقاتي العديد من الأولويات، وجلها تتلخص في إبقاء حكومته واقفة على قدميها في البحار العنيفة للسياسة اللبنانية اليومية. أما بخصوص دور جبران باسيل، الذي كان يشغل منصب وزير الطاقة والمياه حينذاك، يقول هوف "كان باسيل يلقي خطابات وبيانات وطنية تخلط بين خط المطالبة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة في لبنان والحدود الوطنية، التي لا يمكن تعديلها إلا من قبل البرلمان. في النهاية اضطررتُ لإخبار باسيل في واشنطن أن لبنان ليس له حدود وطنية مع جارته في الجنوب. إن خط الفصل البحري الذي اقترحته الولايات المتحدة، مثل الخط الأزرق، سيكون مؤقتاً بطبيعته حتى يتفاوض لبنان وإسرائيل على الحدود وتطبيع العلاقات. اقتنع باسيل بوجهة نظري وكان من الممكن أن يؤيد التسوية لو طرحها ميقاتي لتصويت مجلس الوزراء. لكن هذا لم يحدث قط".

في 19 تشرين الأول 2012، وبينما كان هوف يتناول الغداء مع جو عيسى الخوري في مدينة نيويورك، أبلغه أنه ينوي التخلي عن مهمته، ما لم يوافق لبنان على اقتراح الحل الوسط. ليقع بعد ذلك بفترة وجيزة الزلزال المتمثل باغتيال رئيس شعبة المعلومات وسام الحسن بسيارة مفخخة. وهكذا بدأ الانزلاق السريع لحكومة ميقاتي نحو الانهيار.

غضب بري
بعد أسابيع من ترك منصبه، تلقى هوف مكالمة هاتفية من سفير لبنان في واشنطن طوني شديد، أخبره فيها أنه بحاجة لرؤيته بشكلٍ عاجل. وعند اللقاء توجه شديد لهوف بالقول "أبلغت رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي كان مهتماً جداً بوساطتك والذي استمتع دائماً بلقائك، بأن وزارة الخارجية طردتك وأن حكومتك قد سحبت خط التسوية الذي اقترحته".

أُصيب هوف بالذهول لسماعه هذه الأخبار، التي اعتبرها طريفة. وعند سؤاله عن مصدرها، أخبره شديد بأنه حصل عليها من مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية، رافضاً تحديد هويته. وغداة مغادرته اتصل هوف بالسفيرة كونيلي في بيروت، التي سمعت أن رئيس البرلمان غاضب من خبر إقالته. وهنا يقول "سألتها هل يمكنني القدوم إلى بيروت من فضلك وتهدئة الرئيس برّي؟ في غضون أسبوع أو أسبوعين كنتُ في مكتب برّي، وأكدت له أنني لم أُفصل من عملي. وأن التسوية الأميركية لا تزال مطروحة على الطاولة".

وتابع " قيل لي بعد سنواتٍ إن المسؤول في وزارة الخارجية الذي حل محلي في المسائل البحرية اللبنانية-الإسرائيلية، وهو شخص لم يتم تعيينه في مكتب الشرق الأدنى، قد نشر القصة المعنية عن إقالتي، اعتقاداً منه أن لديه بديل يمكن للجانبين قبوله، والذي يتلخص بالسعي لاتفاقية توحيد تغطي المنطقة المتنازع عليها بالكامل من دون رسم خط".

الأمل ما زال قائماً
في ختام مقالته، تناول هوف نجاح واشنطن في إحياء وساطتها في ترسيم الحدود، قائلاً: "حظيَ خط هوف- ينبغي أن يُسمى "خط راي نسبةً لميليفسكي"- ببعض الاهتمام في الصحافة. وبعد ثلاثة جولات، لم يُسجل أي اختراق. ولكن، على الأقل، يتواجد الفريقان في الغرفة نفسها في مقر اليونيفيل، وهذا أمر رفضته إسرائيل قبل عقد من الزمن".

وخلص هوف إلى القول "لقد فشلتُ في النهاية. لكن من غير الحكمة أن يتجاهل طرفيّ هذا النزاع المستمر ما أنجزاه بمساعدة أميركية بحسن نية، منذ ما يقرب من عقدٍ من الزمن. ربما يمكنهم، محاولة تحسين ما فعله أسلافهم بشكل هامشي، مع مراعاة عدم حدوث أي تقدم من دون اتفاق متبادل. منحهم ميليفسكي كل ما يحتاجون إليه الآن للموافقة. ويمكن عبر تكريم ذكراه، التوصل إلى سيناريو مربح للجانبين. وهذا يُعد من أندر الأحداث في منطقة الشرق الأوسط".