جريمة المرفأ وقتل الحريري.. الأمل الضائع واكتمال اليأس

محمد أبي سمرا
الجمعة   2020/11/06
اكتمل ذلك اليأس، وربما بلغ حافة العدمية (Getty)
مضت شهور ثلاثة وأيام قليلة على انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. ومضت 15 سنة وبضعة شهور على تفجير موكب رفيق الحريري في 13 شباط 2005، على طرف وسط المدينة إياها، وغير بعيد من مرفئها.
****

انفجار المرفأ - أو تلك الكارثة التي أصابت كثرة من أحياء المدينة وسكانها - رمت أطناناً أضافية من اليأس الذي كانت قد مضت شهور، وربما بعض سنين، على تخييمه على بلاد اللبنانيين. وهو يأس من أحوال بلدهم، وكانوا يتحسسونه خائفين ومتذمرين من دخولهم التدريجي، اليومي والبطيء، في نفقه. لكنهم بقدريّتهم أو اتكاليّتهم المتوارثة والمعتادة، كانوا يستبعدون أن يتركهم العالم ينحدرون إلى هاويته.

وفي سنة 2020 عاشوا حوادث عامة متتالية خنقتهم ونبّهتهم إلى أنهم دخلوا ذلك النفق ومتجهون نحو الهاوية، فيما العالم منصرف عنهم وعما هم فيه. وانفجر يأسهم، أو تداركوه بالغضب الذي أخرجهم إلى الشوارع والساحات في 17 تشرين الأول من تلك السنة، آملين بتغيير أحوالهم.

ومكثت جماعات ومجموعات وأفراد متنوعين ومختلفين من اللبنانيين شهوراً في الشوارع والساحات، فراحوا يتذمرون ساخطين، معلنين بأشكال وأساليب ولغات متنوعة ومختلفة، وبمقادير متباينة ومتفاوته، يأسهم وغضبهم من حكامهم وأولياء أمورهم. فتراوحت تلك الأشكال والأساليب بين الشتيمة والعتب في مطالبة المتظاهرين الحكامَ والزعماء مطالبةً أهلية وشبه عائلية، بأن يجدوا طريقة ما للكف عن نهبهم وإذلالهم وتجويعهم والتجبُّر والكذب عليهم واحتقارهم.

وهم تواضعوا، بل تواطأوا على تجنُّب إعلان انتماءاتهم وخلافاتهم، فكتموها خشية أن يؤدي إشهارها إلى انفراط عقدهم ونزاعهم. وأشد ما تجنبوه وكتموه خائفين، هو تسمية الطوطم المقدس الأكبر بين زعمائهم. ذاك الذي تواليه جماعته ولاءً مقدساً، حديدياً ومرصوصاً وحربياً لا رجعة فيه وعنه.

لذا اختارت كل جماعة منهم مجموعة الشعارات والتذمرات والأهداف التي تناسبها، ولا تزعج الجماعات والمجموعات الاخرى. لكن مشاهد المحتجين والمتظاهرين العامة الجامعة في الشوارع والساحات، غالباً ما كانت تتكشف عن شقوق وجزر وبلاد وانتماءات متباينة.

وربما لذلك لم تجد جماعات ومجموعات وأفراد المتظاهرين سبيلاً أو قولاً يجابهون به ما فعله ويفعله بهم زعماؤهم وحكامهم، ويَكفُّ أيديهم عن أفعالهم تلك، سوى توكيل أو تفويض الزعماء والحكام إياهم بأن يختاروا، هم أنفسهم وبأنفسهم، ممثلين أنظف منهم كفاً وأرأف برعاياهم، كي يخلّصوهم من ما هم فيه من هوان ومذلة، ويحسِّنون أحوالهم.

وبمكرهم المعتاد المجرّب، استطاع زعماء لبنان وحكامه المتشبثون حتى الموت بمناصبهم الدهرية، والمتربص كل منهم بقرينه ومنافسه وعدوه، تربصه وتشبثه برعيته وطائفته وأهلها حتى هلاكها، فيما هو يعيل خواصّه وبعض عامّتها - استطاع هؤلاء الحكام والزعماء من تشتيت رعايهم الغاضبين الساخطين، وإعادتهم إلى يأسهم وقنوطهم بلا أمل، سوى تشبُّثهم بولاءاتهم لأولئك الحكام والزعماء، أو السكوت عنهم سكوتاً دهرياً يائساً.

واكتمل ذلك اليأس، وربما بلغ حافة العدمية بعد انفجار مرفأ بيروت. فعادت كل مجموعة وجماعة منهم إلى ديارها وأهلها.
****

أما تفجير موكب رفيق الحريري في العام 2005، فأيقظت في نفوس أفراد ومجموعات وجماعات كبرى وازنة من اللبنانيين وزعمائهم، موجةَ غضب مفاجئة من الجريمة السياسية المدبرة، الواضحة والمشهودة والمروعة. وهو غضب ناجم عن يأسهم المديد من أن يستطيعوا دفع ما جثم مديداً على صدورهم وخيم على بلادهم: سلطانُ سوريا الأسد، وربطُه مصيرهم ومصير بلادهم وزعماءها وحكامها بسلطانه الغاشم، وتعيينه وزرائهم ونوابهم، وتوزيعه المناصب والمكانات والمغانم والوظائف عليهم. وهو كان يتوعد بالويل والثبور والقتل والحرب الأهلية كل من تسول له نفسه وإرادته الجهر بعدم ولائه لسلطانه.

لكن جماعات القائد الطوطمي المقدس إياه، أقامت منذ قتل رفيق الحريري وقبله على ولائها المستميت لسلطان الأسد في بلاد السوريين واللبنانيين. وهي خرجت في مسيرات طوطمية معلنة عداوتها لمن لا يواليه، فيما كان الأسد يجلي وحدات جيشه وأجهزة مخابراته من لبنان. ومذّاك استمرت تلك الجماعة إياها مقيمة على عداوتها لكل من اعتبرتهم تسببوا بجلائها. فشنت عليهم حملات تهديد وترهيب متصلة، لم تخل من هجمات مسلحة على أحيائهم السكنية وديارهم.

وانتصرت المنظمة الحربية السرية لجماعة القائد الطوطمي المقدس، على مناوئي سلطانها في لبنان وسوريا. وأخضعت جماعات اللبنانيين وزعماءهم لطاعتها وإرادتها الأمنية والسياسية والعسكرية. فصارت هي من يثبّت الزعماء على جماعاتهم، ويوزع عليهم الأدوار والمناصب والوزارات والمغانم في لبنان. وجعلت بلاد اللبنانيين الممزقة، وديار سوريا التي شاركت الأسد على إغراقها بالدم، أرض سيبة متصلة، بلا دولة ولا حاجة فيها لدولة.
****

ورغم عداواتهم، تواطأ زعماء جماعات اللبنانيين وحكامهم، على تناهب ما تبقى في بلادهم، موقنين أن العالم لن يكف عن إعالتهم وإعالة جماعاتهم، وسوف ينجدهم مهما تناهبوا. والمنظمة الحربية المنتصرة عليهم، كانت على اليقين نفسه، مستقوية بسلاحها وجبروتها وولاء جماعتها المرصوص حولها. ظانة أن العالم لن يترك رهائنها يفلسون ويجوعون. لكن العالم خان اليقين والظن هذين، فأفلس لبنان وأهله وجماعاته.

لكن لا الأفلاس ولا الجوع غيّر شيئاً في عزم زعماء هذه البلاد على بقائهم على ما هم عليه، منذ كانوا أمراء حرب ودم، وثبتتهم جماعاتهم أسياداً وولاة عليها.

وهاهي جماعاتهم اليوم غارقة إما في طوبى خلاصية خرافية، أو في يأس شبه عدمي، وفي كلتا الحالتين لا يلوح مخرج في هذا الأفق المعتم.