الانتخابات الأميركية في لبنان

يوسف بزي
الخميس   2020/11/05
تظهر "السياسة"، حسب محترفيها اللبنانيين، خداعاً مستمراً (عباس سلمان)

"يبدو لا نتائج رئاسية في أميركا قبل تشكيل حكومة في لبنان". هذه الطرفة تنتشر عبر وسائط التواصل الاجتماعي. وهي توازي في مجانيتها العبثية ما ينتشر عبر الثرثرة المسماة إعلاماً لبنانياً: لا حكومة قبل الانتخابات الأميركية.

السياسيون أنفسهم يشجعون على تسويق هذا النوع من المقولات، التي توهمنا أن شروط طلال إرسلان مثلاً، أو مطالبة جنبلاط بوزارة الصحة، أو إصرار باسيل على وزارة الطاقة، إنما هو متصل على نحو حميم و"جوهري" باستراتيجية دونالد ترامب أو خطط جو بايدن، من غير إغفال ما ستسفر عنه نتيجة التصويت في بنسلفانيا!

مرة أخرى، تظهر "السياسة"، حسب محترفيها اللبنانيين، خداعاً مستمراً من نمط أن مصير الطائفة أو حتى مصير لبنان نفسه إنما هو متصل وجودياً بمصير "الزعيم" نفسه. وهذا الأخير، ليس لديه إلا القول أن مصير طائفته وبلده مرهون حتماً بمن ستؤول إليه الرئاسة الأميركية، أو العلاقات الإيرانية الأميركية، أو النزاع التركي الخليجي.. إلخ.

في هذه الأثناء، يمتلئ "هواء" التلفزيونات بالبارعين في تسييل الكلام بدفق هائل وسريع على النمط الذي أسلفناه، وينجرف اللبنانيون معه متقبلين كل هذه الأوهام لا تصديقاً تاماً، إنما على الأرجح تعزية للنفس هرباً من اليأس أو تجنباً للإقرار بالعجز. وسرعان ما يحيل اللبناني مأساة انهيار نظامه السياسي والاقتصادي وتدهور أحواله إلى سوء السياسة الدولية وشر ترامب أو خامنئي أو أردوغان أو نتانياهو.. وهو صحيح جداً كلما أسلمنا تطوعاً البلدَ وقرارَه إلى هؤلاء. فلا شغل للمستحوذين على السلطة والسياسة سوى التنافس فيما بينهم على ترتيب مزاد "التدخل الخارجي" بل استجداء كل خارج كي نمنحه نفوذاً، ونورطه في نزاع لاسا العقاري أو في تسمية وزير المالية.

المواظبة على نزع أي حصانة وطنية، كما الإدمان على خداع الجمهور، جعلت حتى هذا الخارج يشمئز من هذا الدجل اللبناني. وعلى هذا المنوال، استطاع سياسيونا -ومعهم جيشهم الإعلامي- دسّ ما قاله الرئيس الفرنسي فضحاً مشيناً، وما قاله وزير خارجية فرنسا تحذيراً من زوال لبنان، بل وما رسمه الفرنسيون خريطة طريق متّقنة للإنقاذ.. في أكوام اللغط والكذب والرياء إلى حد استحالة مجرد تذكرها على نحو واضح. فبدا أنه حتى عندما يأتي هذا الخارج فعلاً إلى قلب السياسة الداخلية، سرعان ما يتم مسخه لبنانياً، فيكون لدينا "خطة فرنسية" حسب نسخة نبيه برّي، وأخرى وفق تأويل محمد رعد، وثالثة بتفسير وجيه البعريني.

ولا تتوقف هذه المسخرة هنا. إذ أن الوهم البالغ الحماقة الذي تعبّر عنه نكتة "يبدو لا نتائج رئاسية في أميركا قبل تشكيل حكومة في لبنان"، كان مرئياً تماماً ونحن نتفرج على إحدى إعلاميات الرثاثة اللبنانية وهي تجول في شوارع أميركا "تغطية صحافية" للانتخابات الأميركية، وفق الأسلوب نفسه في البث المباشر قبل وأثناء وبعد 17 تشرين: "إنت شو عم تعمل هون.. إنت ليش حامل هاليافطة.. إنت ليش عم تقطع الطريق". هذر بكاميرا وميكروفون بلا توقف. 

وإعلام الرثاثة هذا، بقدر ما هو صنيع السياسة اللبنانية، بقدر ما هو صار صانعاً حقيقياً للسياسة نفسها في تغذية ارتجاعية لا فكاك منها، حتى آخر الانحطاط والتفاهة التي ترسم مصيرنا المعلّق بين خطيب موتور ومذيعة بلهاء.