ماكرون يفشل ويربح ثقة اللبنانيين ويسحب الشرعية الدولية لزعمائهم

نبيل الخوري
السبت   2020/10/03
ربح ماكرون في "القوة الناعمة" للدخول إلى قلوب وعقول اللبنانيين (Getty)
فشِلَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالطبع، في انتزاع "حكومة مهمّة" من اللاعبين السياسيين في لبنان. لكن مخطئ من يروّج أن فرنسا مُنِيَت بهزيمة جرّاء هذا الفشل. ويمكن القول إن ماكرون فشِلَ ولم يخسر. ويمكن الذهاب أبعد من ذلك في الجَزْمِ بأن ماكرون ربح ولَوْ فشل، أقلّه حتى الآن. 

سحب الشرعية الدولية
في خطابه الأخير، مساء الأحد 27 أيلول، استعرض ماكرون حصيلة مساعي فرنسا لتأليف حكومة اختصاصيين، مستقلة نسبياً عن الأحزاب التي تعاملت في السابق مع الدولة وفق منطق الغنيمة والزبائنية والفساد. وهذه الحصيلة بدت هزيلة، بلا شك. لم تلتزم القوى السياسية التقليدية بتسهيل عملية تأليف حكومة مصطفى أديب، ضمن مهلة 15 يوماً. الصبر الفرنسي لبضعة أيام إضافية قوبل بمزيد من التعنت اللبناني، لا سيما من قبل الثنائي "حزب الله ــ أمل"، مع تمسكهما بوزارة المالية وبتسمية الأحزاب للوزراء. هنا، أقر ماكرون بالانتكاسة. بيد أنه استطاع تحويلها إلى فرصة له، لتسجيل نقاط في مكان آخر، أبعد من مسألة الحكومة المنتظرة.

فهو هاجم عنيفاً "نظام الفساد" الذي "يتمسك به الجميع، لأنهم يستفيدون منه". وأعلن أن "بضع عشرات من الأشخاص يقومون اليوم بإسقاط البلد". وتركز انتقاده اللاذع على سياسة القطاع المصرفي، فاتهمه بالنصب والاحتيال خدمةً لمصالح السياسيين، وأدان إخراج البعض أموالهم من المصارف المحلية.
وهذه كلها مضامين تحمل معنى واحد: الرئيس الفرنسي، صاحب السيرة الذاتية اللامعة في مصرف "روتشيلد"، والمتهم من قبل البعض بأنه "رجل المصارف" في الحكم الفرنسي، وممثل مصالحها، لا بل "خادم" مصالحها، سَحَبَ اليوم "الشرعية الدولية" عن النظام اللبناني. وهو نظام قائم على تحالف بضعة عائلات سياسية مع القطاع المصرفي والريعي، بغطاء حزبي وميليشياوي وطائفي. ولطالما حظي هذا النظام بثقة المنظومة الغربية الليبرالية، واستفاد من رعايتها له وتعاونها معه. هذه المفارقة ليست تفصيلاً ثانوياً. والتوجه غير المألوف الذي عكسه كلام ماكرون في مؤتمره الصحافي الأخير، حقق له تقارباً معنوياً كبيراً مع قسم واسع من المواطنين اللبنانيين. كأنه نطق باسمهم وعبّر عما يدور في خِلْدهم. حتى أن البعض راح يتمنى لو أن لدى اللبنانيين شخصاً مثله يمثلهم ويدير شؤونهم، بينما كان بعض الفرنسيين يستغرب ذهاب رئيسهم بعيداً في خطاب بدا وكأنه تدخل استفزازي في الشؤون الداخلية للبنان. لكن هذا البعد التدخلي، المرفوض بالمبدأ وفي العلاقات الدبلوماسية بين الدول، هو الذي شفى غليل قسم واسع من اللبنانيين. وأكسب ماكرون "شعبية" لدى اللبنانيين.

تعرية المسؤولين
هكذا، فشل ماكرون في مكان محدد، يتعلق بتشكيل "حكومة مهمّة" وفق شروط تتيح الإفراج عن المساعدات المالية الدولية للبنان. وهو لم يكن يستبعد هذا الاحتمال منذ مؤتمره الصحافي في قصر الصنوبر، مطلع أيلول الماضي. لكنه ربح في مكان آخر. في "القوة الناعمة". في تمكنّه من "الدخول إلى قلوب وعقول" قسم لا يُسْتهان به من اللبنانيين الذين باتوا يراهنون عليه للمضي قدماً في معاقبة من وصفهم بالـ"المستفيدين"، الفاسدين، الذين هيمنوا على الدولة ووظفوا أجهزتها وعملها، خدمةً لمصالحهم الخاصة، بحسب مضمون كلام ماكرون نفسه.

وسواء أدرك البعض أم لا، لقد منح ماكرون المشروعية الكاملة لخطاب مجموعات "انتفاضة 17 تشرين"، علماً بأنها لم تكن تنتظر هذه المنّة من أحد. وصنع، سواء عن قصد أو عن غير قصد، صورة رجل السياسة اللبناني المستقبلي. وبات من الصعب على الرأي العام اللبناني، الذي يطمح إلى دولة القانون والحوكمة الرشيدة والتنمية والعدالة الاجتماعية (...)، أن يتقبّل أو يؤيد سياسياً لا يخاطبه بنفس القواعد والمنطق والروحية التي خاطب بها ماكرون الجمهور اللبناني. لقد قال ماكرون عن سياسيي ورجال أعمال لبنان ومصرفييه ما كان يقوله الدبلوماسيون الفرنسيون في الكواليس والبرقيات السرية، وقام بتعريتهم. وهكذا يكون قد وضع ضمنياً معايير للسياسة والمنظومة السياسية، من المفترض أن تصبح هي المعايير السائدة في لبنان من الآن فصاعداً.

ورقة العقوبات
صحيح أن أداء ماكرون في الفترة المقبلة سيحدد ما إذا كان سيحافظ على هذا المكسب المهم أم لا. وهذا رهن خياره المقبل في شأن استخدام ورقة العقوبات المالية والمصرفية على الزعماء والسياسيين الذين راكموا الثروات وفتحوا حسابات مصرفية واشتروا عقارات في فرنسا وأوروبا والغرب عموماً، من خلال جني أموال بطرق غير مشروعة. لكن، رغم ذلك، ثمة من يتجاهل ذلك البُعْد المعنوي والمعياري في مبادرة ماكرون، ويركّز على فشلها، ويصوّر الأمر كما لو أنه بمثابة نهاية العالم بالنسبة لفرنسا في لبنان.

يتجلى هذا التجاهل في ما تنشره بعض وسائل الإعلام اليوم. ثمة حديث عن نجاح سياسة "العصا" الأميركية، بعد الإعلان يوم الجمعة 1 تشرين الأول الجاري، عن التوصل لـ"اتفاق ــ إطار" لبدء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان وإسرائيل، وفشل سياسة "الجزرة" الفرنسية في مسألة "حكومة المهمّة".

مساران
أصحاب هذا الاعتقاد يفوتهم أنه اعتباراً من الخامس من شهر آب الفائت، أي بعد يوم على تفجير مرفأ بيروت، ارتسم مساران أساسيان في لبنان. الأول أطلقه رئيس مجلس النواب، نبيه بري، بكشفه عن أن "اتفاق ــ إطار" بدء مفاوصات ترسيم الحدود أصبح في "خواتيمه". وهذا تزامن مع إعلان قصر الإليزيه عن زيارة ماكرون في اليوم التالي إلى لبنان، حيث أطلق مسار المبادرة الفرنسية. عملياً، تمثّل خطوة بري بعد التفجير مباشرة، إعلاناً مبكراً لنجاح مسار مفاوضات ترسيم الحدود، وذلك قبل أن تنطلق المبادرة الفرنسية، وقبل أن تتوضح ثم تتحول وتتكيف مع تطور الوقائع في بيروت وداخل دهاليز أحزابها، وصولاً إلى فشلها.

كذلك، وفي المضمون، يُعْتَبر فشل المبادرة الفرنسية فشلاً في تشكيل حكومة مستقلة عن الأحزاب. أي فشل في إخراج حزب الله بطريقة ما من الحكومة. وهذا يشكّل بالتالي فشلاً فرنسياً ــ أميركياً ودولياً، وليس نكسة فرنسية حصرية وحسب. لأن حكومة كهذه هي مطلب أميركي قبل أن يكون مطلباً فرنسياً ربما. أكثر من ذلك، هو فشل لسياسة "العصا" الأميركية تحديداً، لأن الثنائي "حزب الله ــ أمل"، ازداد تعنتاً بعد فرض رزمة جديدة من العقوبات الأميركية، بالتزامن مع مفاوضات تأليف حكومة مصطفى أديب، أولاً على شركات جديدة تابعة لحزب الله، ثم على الوزيرين، علي حسن خليل ويوسف فنيانوس. وبهذا المنحى، يمكن النظر إلى إفشال "الثنائي الشيعي" المبادرة الفرنسية، بوصفه رداً مباشراً على واشنطن وليس، أو ليس فقط، على باريس في الملف الحكومي.

الثنائي الشيعي
طبعاً، حسابات "الثنائي" باتت شبه واضحة: لماذا يقدم تنازلاً في الحكومة للغربيين بعدما منح الأميركيين منذ 5 آب خبراً ساراً حول ملف ترسيم الحدود؟ وهو خبر ترجم فعلاً، بما يرضي غرور الرئيس الأميركي خصوصاً، وبما يخدم حملته الدعائية في انتخابات الرئاسة.

في جميع الأحوال، ما يجري تصويره باعتباره نجاحاً لـ"العصا" الأميركية، وهو صحيح في المدى القصير والظاهر، يجب التعامل معه بحذر وبعدم مبالغة على المدى البعيد. لأن لا ضمانات حول متى ستنتهي المفاوضات وما إذا كانت ستنجح في النهاية. كذلك، يبدو أن "الثنائي الشيعي" استدرك خطورة إثارة غضب الفرنسيين، بإسراعه بإعطاء انطباع واضح، كما ورد على لسان بري، بأن فرنسا ستكون مستفيدة من نتائج "الاتفاق ـ الإطار" بشأن ترسيم الحدود. وهذا حين تحدث بري عن إعادة تحريك ملف شركة "توتال" في التنقيب عن الغاز. ما يعني أنه بعيداً من المستوى السياسي والحكومي، من غير المرجح أن تكون فرنسا، بما لها من حسابات ومصالح اقتصادية واستراتيجية، خارج اللعبة بلبنان في الآتي من الأيام.