تسألين جبران كيف وصل إلى دافوس!

جهاد بزي
الجمعة   2020/01/24
راح المسكين يبرر ما لا يبرر (الإنترنت)

لنقل إنها 500 ليرة معدنية. حجر.

في الوجه الأول من العملة، حيث الأرزة، كان وزير الخارجية السابق جبران باسيل ضحية تنمر متقن ولئيم من امرأتين بيضاوين. إحداهما إعلامية أميركية والثانية وزيرة هولندية (وموظفة سابقة للأمم المتحدة في لبنان).


في هذا الوجه من العملة، تعرض جبران لتحامل غير مهني من هادلي غامل التي استعرضت حتى اكتفت بأسئلتها وبتعابير ملامحها ما لا يليق بصحافية من المفترض أنها حيادية. استهجنت إجابات الوزير واستنكرتها وسخرت منها بكل ما في نخاعها الشوكي من استشراق. وقاطعته مراراً بلغتها الأم التي وإن أجادها باسيل، لكنه لن يستطيع اللعب بها كما لعب خلال حفلة الساعات الأربع والنصف على تلفزيون "الجديد". وكان واضحاً أنها مثقلة بآراء ومواقف وأسئلة 17 تشرين، والتي كان أولها السؤال- الضربة القاضية: كيف وصلت إلى هنا في طائرة خاصة، وراتبك (كم ساذج هذا السؤال!) لا يتجاوز خمسة آلاف دولار شهرياً.

تحامل جلي، زادته قسوة برودة الوزيرة سيغريد كاغ التي سقط عليها حب الحقيقة والدقة، وهي تعلن على مسامع الوزير الآتي من لبنان أن راتبها ستة آلاف يورو وأنها لا تستطيع، مثلاً، قبول هدية من صديق عبارة عن زيارة مدفوعة التكاليف إلى مؤتمر عالمي. والهولنديات معروفات عموماً بأنهن ينفثن السم مع كل زفير. على هذا، كل ما خرج من فم الوزيرة كان فحيحاً. لم تقبل بتبرؤه المتواصل من النظام السياسي القائم والمحاصصة والطائفية والفساد وما إلى هنالك من حجج، لم يستطع أصلاً تبريرها في منزله مع "الجديد"، وظن أن بريئيتين في دافوس ستقتنعان بها، وظلت تواجهه بالبديهيات.


راح المسكين يبرر ما لا يبرر للتيار الوطني الحر (اسمه أكثر جاذبية بالانكليزية للمناسبة). أنه جاء عصر أمس إلى القصر وأن الفساد متملك في البلاد منذ عقود وأنه بالرغم من كونه رئيس أكبر كتلة نيابية لا يستطيع أن يكون أكثرية حاكمة لأن البلد مركب طائفياً. غرق في الدفاع عن نفسه كعوني مع أن السيدتين تعاملتا معه بصفته ممثلاً لرئيس جمهوريته، وممثلا للنظام والسلطة في البلد، وأكثر من ذلك، بصفته رئيس الحكومة الفعلي كما وصفته غامبل. جلس في دافوس ليبرئ تياره من الخطايا، كأن العالم يقف عند تياره، وترك للهولندية، الغريبة، أن تحدد كل مكامن الخلل في النظام الذي يرعاه هو وحلفاؤه وخصومه معاً، إلى حد التدخل في القانون الانتخابي، الذي قالت إنه يحتاج إلى حملة شهادة دكتوراه كي يفهموه. تحولت بمنطقها إلى صوت 17 تشرين في الحوار، حتى بدت كأنها رئيسة حكومة الأمل، التي كان لبنان ليحلم بها فقط لولا أنها هولندية وليست سنّية بطبيعة الحال.


أعلاه كان وجه الأرزة الوطني المضيء من الخمسمئة ليرة، ذاك الذي يفترض أنه مع جبران باسيل، أما في الوجه الآخر من العملة نفسها. فماذا كنا ننتظر منه أن يقول أصلاً؟ كيف كان سيخرج سالماً معافى من هذه المبارزة التي ليست على أرضه ولا بين جمهوره؟ لا شيء في جعبة هذا السياسي اللبناني التقليدي ما يجعله يأتي بما ليس عنده. لا شيء. ببلاغة الافتتاحيات السياسية للصحف اللبنانية، هو لاعب محلي شديد المهارة، التقط الحرفة كلها، من التمريرات إلى التسديدات إلى الغرق في الفساد السياسي اللبناني برمته. جبران باسيل الذي يزعم أنه عراب التفاهم مع حزب الله وعراب نقل التيار مما كان عليه إلى ما آل إليه وعراب وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، من المهين أن تسأله صحافية كيف وصل إلى دافوس. دافوس! جبران تغلغل عبر المحظيين لديه في مرافق إدارية وسياسية واقتصادية وعسكرية ودبلوماسية لا تعد ولا تحصى. بات على درجة من الأهمية بمكان لأن يقف تشكيل الحكومة عند رأيه. مهم لدرجة أن يعترف أنه سارع في تشكيل الحكومة كي يكون حاضراً في دافوس، عوضاً، مثلاً، عن معنيين في الحكومة الجديدة قد يكون حضورهم أكثر جدوى من وزير سابق. مهم لدرجة إن ثروته، وثروة والد زوجته، كما ثروات معظم العاملين في الشأن السياسي اللبناني، من الأسرار. جبران باسيل يطرح نفسه في المعادلة المحلية، صانع ألعاب سيعطى له المجد يوماً، أن لم يكن قد أعطي له أصلاً. آخر المدافعين عن وجود المسيحيين في "هذا الشرق". هكذا جبران باسيل في دوائره ودوائر السياسة اللبنانية البائسة. يطبق كل نزقه وفوقيته حيث حل، إن في الحزب أو في القصر أو طوال أربع ساعات ونصف قياسية في مدتها على شاشة تلفزيون محلي. يصول ويجول. عملاق. لكن ما يراه في المرآة المحلية لا يعكس حجمه الحقيقي. جبران ينكمش حتى يتلاشى، ما أن يجلس في وجه وزيرة حقيقية، تعرف عما تحكي، وليس لديها ما تخبئه عنه أو ترجوه منه، ويكون أول ما تقول له إنه من الممنوع عليه أن يكون لديه صديق يتكفل بتكاليف سفره إلى دافوس، وتكون من التهذيب بمكان ألا تواجهه بأنه لا يقول الحقيقة، وبأن رحلة إلى دافوس لا تحتاج في الواقع إلى مساعدة صديق لصهر رئيس جمهورية موز، مثل تلك التي في لبنان.


لنقل إنها خمسمئة ليرة معدنية. كتلك التي خسرتها العملة اللبنانية من قيمتها الشرائية. خسارة لن يلتفت إليها باسيل وأمثاله، كما لن يلتفت، بعد عودته إلى بعبدا، إلى مواجهة خرج منها مهشماً يثير الشفقة، أجراها في دافوس مع خبيثتين لم تستجوباه إلا في شعارات سخيفة لا ينتبه إليها أحد، كالشفافية مثلاً، كالمسوولية كما يفترض أن تكون، كصوت الناس المندلع في الشارع منذ أكثر من مئة يوم، وقد فقدوا في سبيله أرواحاً وعيوناً.

هل حقاً سألت جبران باسيل كيف وصل إلى دافوس؟ يا لخبث الاستشراق، يا لتفاهة الأجانب.