علي حسن خليل: الشيعية السياسية الظافرة

يوسف بزي
الخميس   2019/05/23
صورته تحفظ لوناً ريفياً ثابتاً في مظهره، وإن اكتسب ببطء لغة جسد ديبلوماسية رصينة (علي علّوش)
تحول المحامي الشاب علي حسن خليل إلى نائب "دائم" منذ العام 1996 (كان بعمر الثانية والثلاثين). وهو الملازم الدائم لرئيسه وزعيمه نبيه برّي. وترافقت ملاصقته الوفية والمخلصة مع حقبة "تطهير" حركة أمل من المنافسين والمتمردين على سلطة برّي وسياساته التنظيمية، في أثناء الانعطافة الكبيرة المبتدئة عام 1991، نحو إعادة بناء الدولة والكيان، بمساهمة شيعية ثقيلة وواسعة النطاق يتولاها برّي ويهندسها، بما يستلزم منه التخلص من عتاة الحركة المتمنعين عن مغادرة مناخات الحرب وسياساتها، أو العاجزين عن التأقلم مع شروط "ولايته" و"هندسته".

أولى المكافآت
ويبدو أن نبيه برّي وجد في الجيل الذي يمثّله خليل ضالته، أي أولئك الذي لم يأتوا إلى حركة أمل من أحزاب يسارية ولا من منظمات فلسطينية كما كان حال الجيل السابق، بل تربوا ونشأوا ووعوا في أحضان الحركة وحسب، ولديهم عصبية صافية تجاه مقاصد الحركة الحقيقية: إرواء ظمأ الشيعة للترقي الاقتصادي والاجتماعي، على صورة رمزية وعيانية تجسدها زعامة نبيه برّي ونفوذه، ودالته على الحكم والسلطة.

أخلص خليل لفكرة التوأمة بين زعامة برّي و"حقوق" الشيعة، بل وأناط بها أيضاً نجاحه الشخصي. وكوفئ على هذا، أن تولى مسؤوليات حساسة داخل الحركة، كتوليه "إقليم بيروت" وعضوية مجلس رئاسة الحركة. وكانت من أولى المكافآت "الوظيفية" عضوية مجلس إدارة مشروع "أليسار"، في بدايات التنعم الشيعي بمكاسب ومناصب ووظائف وفرها "دخولهم" المظفر إلى جنات الدولة ومؤسساتها.

شخصية العام
وإذا كان اليوم النائب علي بزي يتولى دور "الناطق" بما يريد "سيد عين التينة والمصيلح" نشره وبثه، فقد كان علي حسن خليل أول من أجاد هذا الدور وبرع فيه لسنوات كثيرة، صقل أثناءها لفظه وعباراته وهيئته وملبسه وصورته، التي تحفظ لوناً ريفياً ثابتاً في مظهره، وإن اكتسب ببطء لغة جسد ديبلوماسية رصينة.

وإذا كنا قد اعتدنا عليه نائباً ثابتاً في كتلة "التحرير والتنمية"، ثم وزيراً للزراعة عام 2003 - 2004، ووزيراً للصحة العامة عام 2011، إلا أن "القفزة النوعية" كانت بتوليه لوزارة المالية أول مرة عام 2014، ويتولاها أيضاً في الحكومة الحالية.

هناك بعد بسيكولوجي (وسوسيولوجي) عميق وبالغ الدلالة بتولي خليل لـ"المالية". ليس فقط لأنه الآن الشخصية الأكثر إثارة لاهتمام الرأي العام في لحظة "الموازنة" الصعبة، وفي زمن الأزمة الاقتصادية المشهودة، بل لأن تولي ابن بلدة الخيام الشيعي "المحروم" لوزارة تشكل مجازاً سراً من أسرار "الصيغة" اللبنانية، هو أشبه بتمثيل مكثف للتحول الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي خاضته الطائفة الشيعية في العقود الأربعة المنصرمة.

الذاكرة و"التأسيس"
يروي صديق لي أن والده، وبعد جهد، استطاع توظيفه في أحد مصارف بيروت في أواخر الستينات: "كنت المسلم الوحيد في البنك". وعلى الأرجح أن صديقي هذا كان من بين المسلمين الشيعة النادرين الذين عملوا في المصارف أو الشركات المالية والتجارية، آنذاك. فلبنان الأعمال والمقاولات والوكالات الكبرى والمصارف والمرافق الاقتصادية الأساسية، كان حكراً على صفوة من المسيحيين وبعض المسلمين السنّة والدروز، في حين كان الشيعة، المتأخرين عن التعليم الحديث والأجنبي، قابعين في زمن فلاحي - إقطاعي، سمته الفقر وضيق الحال والهامشية التاريخية.

وفاقم من التفاوت الثقافي والتعليمي والاقتصادي بين الشيعة خصوصاً والطوائف الأخرى، نظام "الامتيازات" المسيحية، الذي ضمن بقاء تفاوت الفرص على حاله من قلة الإنصاف والإجحاف. وإذ عملت الحقبة "الشهابية" على تقليص تلك الهوة وتسريع التنمية ونشر التعليم وتعميم فوائد الطفرة المالية، وتوسيع الإدارة العامة والمنضوين فيها، فهي أتاحت ظهور جيل من الشباب الشيعي ذوي الأصول الفقيرة الذين حصّلوا تعليماً جامعياً، كما خبرة عيش مديني، ووعياً سياسياً حديثاً، وبعض الارتقاء الاجتماعي، لكن من غير ترجمة ذلك في الفرص والمناصب والوصول إلى الثروة.

ومن هذه الذاكرة وعليها، كان تأسيس الإمام موسى الصدر "حركة المحرومين"، التي ابتغت إشراك الشيعة وإدغامهم في الكيان اللبناني ومحو حرمانهم المديد. واتصفت تلك الحركة بشدة الإلحاح والنقمة والتعبئة الدائمة. وتواءم هذا السعي "النضالي" و"المطلبي" مع جنوح عموم المسلمين إلى دعاوى اليسار والعروبة والمقاومة الفلسطينية، بما أطاح في نهاية المطاف بلبنان، وأوقعه في حروب متناسلة لا تزال ندوبها وجروحها تستنزف جسمه وروحه.

وعلى هذا النحو، سرعان ما تحولت حركة الصدر، إلى واحدة من الميليشيات الأساسية في الحرب، التي ستتحول بعد العام 1982، إلى صراع طائفي مكشوف وكامل. وإذ أدرك الجميع نهاية الجمهورية الأولى، كانوا يتمادون في دموية الحرب وطائفيتها (ومذهبيتها) سعياً إلى إعادة ترتيب جغرافية - ديموغرافية تناسب كل طائفة في لحظة "التسوية الأهلية" المرتقبة.

الصعود أو الهبوط
وفق ديناميكية الحرب هذه، الجغرافية والديموغرافية، إضافة إلى ديناميكية النزوح الريفي إلى المدينة السابق للحرب، والمتحول تهجيراً قسرياً في أثنائها، سينشأ مجتمع "الضاحية"، كما سيتحول مصير الجنوب، احتلالاً وتحريراً، إلى شرط وطني في صياغة الجمهورية الثانية. وستحقق "انتفاضة 6 شباط" (1984) ومعركة المخيمات الفلسطينية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وقبلها تأسيس "حزب الله" بما يترجم القوة الجديدة التي حازها الشيعة مع انتصار الثورة الخمينية في إيران، الطموح "الصدري" في دخول الشيعة إلى قلب الكيان اللبناني وعاصمته، وإن كان دخولاً بالغ العنف والصخب.

وتألفت في الأثناء سيرة "ميليشياوية" الطابع لهذا الصعود الذي حققه الشيعة، بعضه باستحقاق وجدارة وبعضه استيلاء وخطفاً وتسلطاً. وطغت تلك السيرة في أذهان اللبنانيين وفي إنتاج تصوراتهم النمطية السلبية، خصوصاً ضد "شباب حركة أمل". تصورات كاريكاتورية لم تفتقد للبراهين أحياناً كما حدث في 7 أيار 2008، وحوادث كثيرة قبلها وبعدها.

وإذ يأتي من "شباب حركة أمل" علي حسن خليل، متأبطاً حقيبة مال الجمهورية، في دولة تعتنق نظرياً الرأسمالية ومبدأ حرية السوق وتنتهج اقتصاد الخدمات والسياحة.. فهذا لا شك انقلاب أو نتاج انقلاب لا نعرف على وجه اليقين إن كان صعوداً ارتقائياً لجماعة أم هبوطاً حراً للدولة نفسها.