فرنسا شديدة الاستياء لبنانياً من حلفائها وخصومها معاً

نبيل الخوري
الثلاثاء   2019/03/05
أبدى بيار دوكان انزعاجاً واضحاً من غياب دينامية لبنانية فعلية للإصلاح (دالاتي ونهرا)
التعاطي الدبلوماسي الفرنسي مع القوى السياسية اللبنانية، سواء كانت في موقع الحليف أو الخصم، يتسم بمفارقة. فالدبلوماسية الفرنسية تكون حازمة مع الحليف، إذا اقتضت الضرورة. ولا تتردد في إظهار المرونة مع الخصم، إذا لزم الأمر. اليوم، تبدو شديدة الاستياء من حلفائها وأصدقائها قبل خصومها. هذا ما يظهره الموقف الذي عبّر عنه أخيراً السفير الفرنسي، المشرف على تطبيق خطط مؤتمر "سيدر"، بيار دوكان، أثناء زيارته إلى بيروت، حيث أبدى انزعاجاً واضحاً من غياب دينامية لبنانية فعلية، للتصدي لتحدي الإصلاحات ومكافحة الفساد. لكنها ليست المرة الأولى التي تتعامل فيها فرنسا بهذه الطريقة مع أطراف حاكمة قريبة منها، وتحظى بدعمها وبرعايتها. ثمة أمثلة عديدة في تاريخ العلاقات الفرنسية اللبنانية عن ازدواجية الحزم والمرونة في تعامل فرنسا مع الشأن اللبناني.

العودة عام 1978
بدأ التأثير الفعلي والمباشر للدبلوماسية الفرنسية، على عملية إدارة الصراعات اللبنانية، بعد الاجتياح الإسرائيلي الأول للجنوب عام 1978. فقد شارك جنود فرنسيون في قوات "اليونيفيل" التي أنشأتها الأمم المتحدة بعد الاجتياح، في إطار مهمة حفظ السلام. هكذا، تكرست عودة فرنسا إلى لبنان من بوابة "القبعات الزرق"، بعد خروجها منه في أربعينيات القرن الماضي إثر نهاية الانتداب. ليست "اليونيفيل" قناة التأثير الوحيدة، لأن لفرنسا نفوذاً اقتصادياً وثقافياً لا يستهان به. لكن مشاركة قواتها في عملية حفظ السلام، وفّرت لها ورقة رابحة وعزّزت دورها في إدارة أزمات لبنان.

بغض النظر عن النتائج أو المكاسب التي حققتها الدبلوماسية الفرنسية منذ حصول ذلك التحوّل في حضورها ومكانتها في لبنان، يبقى أسلوب تعاملها مع الأطراف المعنية بالصراعات اللبنانية، علامة فارقة. ميزته تكمن في عدم التساهل أحياناً مع الحلفاء والأصدقاء، والضغط عليهم، حتى لو تطلب ذلك نبرة مرتفعة الحدة وسلوك دبلوماسي حازم. وكذلك في الاستمرار بالانفتاح على خصوم لها، واستعدادها للتحاور معهم أو لملاقاتهم، أياً يكن حجم الخلاف معهم.

عهد الياس سركيس
الاختبار الأول لهذا الأسلوب كان عام 1978، بعد انتشار قوات "اليونيفيل" في الجنوب. آنذاك كان الجميع يطمح لإعادة بسط سلطة الدولة على تلك المنطقة بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي منها. كانت فرنسا تنتظر من السلطة اللبنانية الشرعية بقيادة الرئيس الياس سركيس الإسراع في هذه الخطوة، من خلال إرسال الجيش الشرعي. أحد أبرز أهداف المشاركة الفرنسية في "اليونيفيل" كان يتمثل في المساعدة على تحقيق تلك المهمة. لكن ما إنّ لاحظت فرنسا تردد السلطة اللبنانية وعجزها عن اتخاذ قرار حاسم في هذا الشأن، حتى بدأت تشديد اللهجة تجاهها وتوجيه الانتقادات لها، وتهديدها بالانسحاب من "اليونيفيل"، من دون تجاهلها للعراقيل الإسرائيلية والفلسطينية والتعقيدات والتناقضات الداخلية اللبنانية، التي كانت تشل عهد سركيس وحكومته. وعلى الرغم من ثبات سياسة الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين وفي مساندتهم على الساحة الدولية، إلا أن باريس كانت شديدة الامتعاض من ممارسات الفلسطينيين في جنوب لبنان، وانتهاكهم لسيادة وسلطة الدولة اللبنانية، ناهيك عن إدانتها ورفضها لممارسات الاحتلال الإسرائيلي، مع أن موقفها الرسمي يدين أي اعتداء كان يستهدف الداخل الإسرائيلي.

عهد أمين الجميّل
الاختبار الثاني أتى بعد الاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان عام 1982، حين شاركت فرنسا في "القوات المتعددة الجنسيات" مع الولايات المتحدة وإيطاليا، والتي انتشرت في ما كان يسمى بـ"بيروت الغربية" بعد خروج "منظمة التحرير الفلسطينية" منها. الهدف الأساسي لتلك القوات كان يتمثل في مساعدة القوى الأمنية اللبنانية الشرعية، في عهد الرئيس أمين الجميل، على ضبط الأمن، وإعادة بسط سلطة الدولة على أرضها. كانت فرنسا شديدة الحرص على نجاح المهمة. ولهذه الغاية، لم تتوان عن تقديم الدعم للقوى الأمنية الشرعية. لكنها لم تتردد في انتقاد ممارسات انتقامية، كانت تلجأ إليها تلك الأجهزة الأمنية الموالية للجميل في "بيروت الغربية"، والتي كانت الدبلوماسية الفرنسية تصفها باعتبارها انتهاكات لحقوق الإنسان، حسب تقارير يمكن الاطلاع عليها في الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي.

معضلة ميشال عون
أثناء "حرب التحرير" عامي 1989 ـ 1990، كان الدعم الفرنسي للعماد ميشال عون واضحاً ضد القوات السورية. لكن مع مرور الوقت، وتطور الظروف الإقليمية والدولية بشكل ملائم لمشروع الحل، الذي كانت دمشق تروج له لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، بالتنسيق مع السعودية وبمباركة ضمنية أميركية، لم يكن بوسع الدبلوماسية الفرنسية سوى التكيف مع هذا الواقع. أدى ذلك إلى دعمها لاتفاق الطائف الذي عارضه ورفضه العماد عون. فوضعت بالتالي نفسها أمام اختبار التوفيق بين ما تقتضيه مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وعدم التضحية بطرف لبناني حليف وصديق بدأت تتباين معه. كانت باريس تأمل من عون أن يصادق على اتفاق الطائف، باسم البراغماتية والواقعية السياسية. لكن على الرغم من امتناعه عن ذلك، لم يتطور هذا التباين إلى توتر علني ومباشر، ولم يؤد إلى تخلي فرنسا عنه.

مع حزب الله
في المقابل، ثمة اختبار لتعامل فرنسا على قاعدة الانفتاح والملاقاة عند منتصف الطريق، مع طرف لبناني، هو بحكم الواقع خصمها، وذلك خلال "عدوان نيسان" الذي شنته إسرائيل ضد لبنان عام 1996. يتعلق الأمر بحزب الله، الذي كانت تربطها به علاقة مواجهة عنيفة ومأساوية على المسرح اللبناني، في ثمانينات القرن الماضي. نجحت الوساطة الفرنسية في رعاية ما يسمى "تفاهم نيسان" عام 1996. بموجبه لم يعد بإمكان قوات الاحتلال الإسرائيلي استهداف المدنيين في جنوب لبنان رداً على عمليات حزب الله. وبفضله ضاق هامش التحرك العسكري الإسرائيلي، ما ساهم بالإسراع في قرار الانسحاب من جنوب لبنان، حسب استنتاج للمؤرخ الفرنسي، هنري لورانس. كل هذا لا يعني أن فرنسا كانت متفقة مع سياسات وخيارات حزب الله، لكنها كانت حريصة على مد الجسور معه. وبعد تحرير الجنوب، تبين بوضوح أن موقف باريس مؤيد لنزع سلاح الحزب، على أن يتم ذلك في إطار الحوار والتوافق حصراً، بعيداً عن استخدام القوة، وفق مقاربتها الدبلوماسية لهذه المسألة الخلافية في لبنان، المتمسكة بها منذ عام 2004 وحتى اليوم.

ضمان الاستقرار
هذه التجارب لا تختصر كل تاريخ تصرف الدبلوماسية الفرنسية حيال لبنان وتحدياته. لكن العِبَر التي يمكن استخلاصها منها، تتمثل في أنه لا يمكن لحلفاء فرنسا وأصدقائها في لبنان أن يستفيدوا من مساعداتها، من دون القيام بالعمل المطلوب، لمعالجة الوضع والتخلص من الأسباب، التي تخلق الحاجة المستمرة لمساعدات كهذه. في المقابل، يمكن الاستخلاص من تجارب فرنسا في لبنان أنها تبقي خطوط التواصل مفتوحة مع الخصم، ولا تطعن في الظهر، كما أنها لا تستقوي على أحد، لا في الظروف العادية ولا في وقت الأزمات، لأنها تدرك خصوصية التركيبة اللبنانية، وتحرص على ضمان شروط استقرار هذا البلد على المدى الطويل.