الحكم المعلّق: حسابات الحريري وتحسبه

أحمد جابر
الأحد   2019/12/01
التحدي القائم بين أركان السلطة يدفع اللبنانيون ثمنه من أمنهم المصيري (علي علّوش)

تقاذف التهم وتبادل المناورات بين أركان أقطاب التشكيلة الطائفية باتا لعبة صبيانية. اللعبة مكشوفة بلا حجج، لكنها تتم مع كثير من الطيش الصبياني، وما ينسب إلى الصبيانية من حسن سريرة وقلة خبرة، وصدق نوايا وبراءة أفعال، كلها. ذلك لا يمكن استخدامه في معرض وصف صبيانية "أنبياء الطوائف". فهؤلاء ليس لهم من الصبيانية إلا جانب عدم المسؤولية، وقلة الحسابات، وعدم الاكتراث بما ينجم عن ممارستهم من نتائج. ما خلا ذلك، نجد الحاكمين المتحكمين أرباب كمائن، وحفظة ضغائن، ومخترعي أقاويل، وهم أحياناً سبابون بأناقة، وكيديون بلباقة، ومروجو أضاليل ومحترفو استثارة عصبيات طائفية. ما أن تستحضر جمهورها حتى يكون البلد اللبناني، بما هو مشروع وطن صعب، في مرمى حاكم الجهل وفي مرمى جمهوره المنقاد بنصّ التجهيل.

على مسرح التشكيل
استقال رئيس الحكومة سعد الحريري. علَّق رئيس الجمهورية ميشال عون: نكمل بالباقين، هذا ما نقل عنه، ولم يفت الناقل أن يربط بين "مسرح الرحابنة" ومسرح السياسة. فعلى المسرح قالت السيدة فيروز "بنكمل باللي بقيوا"، وكان في ذلك إشارة تحدٍّ للديكتاتور، ولا ندري ما موقع جملة رئيس الجمهورية، ولا وجهتها، مثلما لم نكن نعلم المقصود بالتحدي ساعة النطق بالجملة، لكننا علمنا لاحقاً بمن سيكمل الرئيس، ومع من سيكمل، وكيف سيكمل، وفي مواجهة من سيكون الصمود في وجه إعلان الاستقالة الحكومية. وما علمناه نشاهده، فقد قذف الموضوع في وجه الناس، والتمسك بجملة التحدي يدفع ثمنها اللبنانيون خوفاً يغطي يومياتهم، من أمنهم الأمني إلى أمنهم الحياتي، إلى أمنهم المصيري.. وواقع الحال "القطعان بوادي والكيان بوادي".

مسار المتحكم
هشاشة الوضع اللبناني الذي سقطت آخر أوراق ستره، وضعت المتحكم وسط حسابات تتقاطع عند خوف العزلة، إذا ما تابع هجومه فألغى الحالة الحريرية، وعند الخوف من احتمال الانتقال من حالة التحكم المموه إلى حالة التحكم العاري، مما لا تؤمن عواقبه في الحالة اللبنانية المعلومة. عند تقليب خوف المتحكم على وجوهه، نجد الأبرز من تلك الوجوه العجز عن مواجهة وضعية لبنانية جديدة فيها أحد أركان التشكيلة الطائفية مستفرد أو مقصي، أو مستضعف أو منتقص الدور من خلال انتقاص التمثيل. هذا العجز عن الحفاظ على صيانة "الشكلية اللبنانية" كصورة، صار خطيراً في اللحظة الوطنية الحالية، لأن العجز بات متصلاً في مضمونه، بانهيار يشكل الاقتصاد أحد تجلياته، لكنه يختزل كل تداعيات الانهيار الكارثية.

حساب الحاكم
إذا أعطي سعد الحريري صفة الحاكم المطلوب ولو غير مرغوب به، أي الشخص الذي تقتضيه مصالح المتحكم المتمسك بشروطه، فإن الافتراض الأقرب هو أن رئيس الحكومة يدرك حاجة خصومه السياسيين إلى ضرورته، وعلى هذا الإدراك المعلوم، وما يضاف إليه من مدركات تخص صاحبها وتقع في ظنون من ليس لديه علم بما هو معلوم، على ذلك، تصير القراءة للسلوك الحريري مشدودة إلى تفسير وفهم أدائه المعلن، وإلى ربط هذا المعلن بما يمكن أن يكون مضمراً، بحيث يكون الأخير موضوعاً للاستدلال أو للاستخلاص، وللعرض والاستنتاج من جملة فرضيات قريبة وبعيدة.

ما الحسابات؟
سعد الحريري الذي ما زال رافضاً لمبدأ التكليف، وما زال غير منقاد إلى رغبة الراغبين بالحصول على بركته وتزكيته لمن قد يتقدم إلى المغامرة الحكومية كشريك وحاكم في تشكيلة متحكمة، الحريري هذا، يوحي سلوكه بوجود طلبات خارجية، مثلما يوحي بمطالب داخلية، والأمران يظلان مرتبطين بشدة بحسابات سعد الحريري الشخصية، إذن كيف يعاد دمج كل تلك العناصر بأبعادها الثلاثة للوصول إلى استنتاج يكون الأقرب إلى حالة "الاستنكاف الحريرية".

حساب الخارج
الوضع العربي واحد من بنود الحساب. في السياق هذا هل طلب بعض العرب من سعد الحريري الانسحاب من المشهد، وما هي الدوافع التي أملت على هؤلاء طلب الانسحاب؟ يتبادر إلى الذهن أسماء دول عربية يصدر عنها هكذا طلب، وهي في حالة سعد الحريري وتحالفاته ومرجعياته، دول الخليج عموماً، والسعودية والإمارات العربية المتحدة في الطليعة من أولئك في اللحظة السياسية الراهنة. الطلب، إن صدر عن هؤلاء، يندرج في سياق المواجهة المفتوحة مع إيران، من اليمن إلى لبنان. ولا يخفى أن الطلب العربي هذا على ارتباط مع السياسة الأميركية الحالية، خاصة في بندها الإيراني، مع هذا الارتباط يكون طلب الابتعاد من الحريري جزءاً من سياسة عامة ضد المحور الإيراني، وفي سياق سياسي لبناني يتلازم مع سياق التضييق الاقتصادي على إيران.

إذا صحَّت الفرضية، يتقدم سؤال: وما الضمانات الشخصية والسياسية التي أعطيت لسعد الحريري حتى يتسنى له الإقدام على طرح ما طرحه والثبات عند مضمونه؟ هذا جوابه عند ما قد تحمله الأيام الآتية من استشارات نيابية تفتح مسار التكليف، وما قد تحمله الاستشارات من حصيلة التشكيل.

حساب الداخل
لكن ليست تلك كل حسابات الحريري، فما عليه أن يأخذه في الحسابات هو العلاقات التي نسجها مع أركان التشكيلة، شركائه في الحكم، وتشمل الحسابات أيضاً مجمل منظومة علاقات المصالح المادية التي قد تشد الخناق على "رقبة" قرار الحريري، أو تساهم في إطلاق العنان لهذا القرار.

المصالح المالية، وما يرتبط بها، يجب أن تكون مضمونة في حال أكمل الحريري استنكافه، وأن تظل مصانة إذا اكتفى بتزكية الرئيس القادم، وأن تكون الضمانات من أفرقاء الداخل واضحة وموثوقة، بحيث لا يكون الحريري موضوعاً للكيدية السياسية من بوابة الفساد الاستنسابي، أو من ثقوب التخوين والاتهام بالوطنية، الذي يتقنه "الأخوة الأعداء" في التشكيلة اللبنانية.

هي حسابات ترتبط بكل ضرورات التحسُّب، فعلى أي طمأنينة سياسية سيستقر الحريري؟ وما الارتياب الذي سيظل رفيقاً دائماً لهذه الطمأنينة؟